نبيل هيثم – «صدى الوطن»
معبّرة كانت الصورة المركّبة التي تداولها الناشطون المطالبون بالديمقراطية في تركيا، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تظهر حشداً في اسطبنول أو أنقرة، كل وجوه المشاركين فيه، هو وجه رجب طيب أردوغان، تحت عنوان «تركيا الجديدة»!
إذ لم تكد تمضي ساعات على الانقلاب الفاشل، ليل الجمعة 15 تموز (يوليو)، حتى شرع الرئيس التركي، العائد الى اسطنبول على طريقة السلطان محمد الفاتح، في شن أقسى حملة بوليسية على أعتى معارضيه في الداخل، جماعة صديقه السابق الداعية الإسلامي فتح الله غولن، وأشد حملة سياسية على «الخصوم-الحلفاء» في الخارج، ولا سيما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
يحاول أردوغان الاستفادة من فشل ما بات يسمّى بـ«انقلاب الهواة» من أجل تكريس نفسه حاكماً بأمر الله على تركيا، وتحويل بلاده إلى ديكتاتورية فاشية، على الطريقة الموسولينية أو الهتلرية، قوامها حاكم مطلق الصلاحيات لا يترك للصلح مكاناً لا مع خصومه في الداخل ولا في الخارج، وذراعها البوليسي جهاز الاستخبارات الموالي للحاكم بالكامل، وحماتها ذوو الذقون الذين خرجوا الى الشارع في ليلة الانقلاب، ونكّلوا أشد تنكيل بجنود بلادهم، حتى أولئك الذين خرجوا بدباباتهم وآلياتهم، وقيل لهم إنهم في تدريبات.. وليس في انقلاب!
تطهير وطوارئ
الانقلاب الفاشل الذي وصفه أروغان بـ«هدية من السماء»، يعيد إلى الاذهان حادثة جرت قبل 83 عاماً في برلين، يوم اشتعل حريق في مبنى الرايخستاغ الألماني (البرلمان). يومها أجرت الشرطة الألمانية عملية بحث شامل داخل المبنى، فوجدت مارينوس فان دير لوبي، وهو شيوعي هولندي، وهو احد العاطلين عن العمل ممن أتوا الى المانيا. وكان وجود دير لوبي كافياً لاستخدم الحريق كدليل من النازيين على أن الشيوعيين يحضرون لمؤامرة ضد الحكومة الألمانية، فمرر أدولف هتلر مرسوماً طارئاً لمواجهة الشيوعيين، علقت بموجبه الحريات المدنية والعامة وقامت الحكومة بتنفيذ إعتقالات عشوائية بحق الشيوعيين… وكانت تلك البداية العملية لتأسيس ألمانيا النازية.
وكأنّما تلك الأحداث تتكرر اليوم بتركيا، بإخراج آخر. وكما أن أحداً حتى الآن لا يستطيع الجزم بما إذا كان الشيوعي الهولندي هو من اضرم النيران في مبنى البرلمان، أو أن الأمر كان مدبّراً من قبل هتلر، فإن أحداً كذلك لا يستطيع الجزم بأن انقلاب الضباط الاتراك كان حقيقياً أم بتدبير من أردوغان، أو أن الأخير قد استدرج صغار الجنرالات الى التمرّد، حين سلط عليهم سلاح «مجلس الشورى العسكري»، ووضعهم أمام خيار من اثنين: إمّا الانتصار وإمّا حبل المشنقة! ولكن الثابت أن أردوغان، وعلى غرار جنرالاته الذين استخدموا «كاتالوغ» الانقلابات القديم، يستخدم بدوره «كاتالوغاً» قديماً ايضاً للسيطرة على الحكم، ولكنه أكثر خطورة من ذاك الانقلابي، لكونه ببساطة «كاتالوغ» النازية!
لم يتأخر أردوغان كثيراً في إظهار ميوله الهتلرية فأطلق حملة اعتقالات طالت عشرات الآلاف، ولم تقتصر على ضباط الجيش التركي، بل شملت أيضاً آخرين، ممن يصفهم بأتباع «الكيان الموازي»، في إشارة إلى جماعة فتح الله غولن، من قضاة وموظفين ومدرسين وحتى من عناصر الشرطة التركية.
ماذا بعد الانقلاب؟
كان يمكن فهم الحملة البوليسية هذه انطلاقاً من كونها حملة تطهير طبيعية بعد الانقلاب الفاشل، ولكن أردوغان ذهب أبعد من ذلك، حين فرض حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، بما تعنيه من تقييد للحريات العامة، وشرع في استنفار العصب القومي، عبر تقديم تركيا على أنها الامة السيّدة التي لا يحق لأحد انتقادها، فهي «ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي حتى ينتقد الأوروبيون سياساتها الداخلية» كما قال حين أعلن حال الطوارئ، لا بل تساءل «لماذا صمت الاوروبيون حين فُرضت حالة الطوارئ في اكثر من عاصمة اوروبية» في إشارة الى فرنسا وبلجيكا.
وفي اطار شد العصب القومي أيضاً، ها هو أردوغان يضع نفسه في خصومة –أو ربما عداوة بمصطلحات رئيس وزرائه بن علي يلدريم– مع الولايات المتحدة في حال لم تستجب لطلبه بتسليم فتح الله غولن.
برغم كل ذلك، فإن «كاتالوغ» النازية الذي يستخدمه أردوغان قد لا يأتي بنتيجة، خصوصاً في ظل تطوّر الحالة الديمقراطية في تركيا، مقاربة بألمانيا الثلاثينات، أو حتى تركيا التسعينات. ولعلّ الأحزاب التركية المعارضة، بمكوّناتها الثلاث، أي «حزب الشعب الجمهوري» العلماني و«حزب الشعوب الديمقراطي» الكردي و«الحركة القومية»، قد تنبّهت مسبقاً الى نوايا أردوغان المبيّتة، فكان خيارها بعدم تأييد الانقلاب العسكري، لا بل معارضته صراحة، صائباً، بأن سحب البساط من تحت أقدام أردوغان، بما يمنعه من توسيع دائرة الحملة الأمنية لتشمل معارضيه «الشرعيين».. ولو إلى حين. على هذا الأساس، فإن الاحزاب التركية المعارضة، وبموقفها الرافض للانقلاب، قد احبطت جزءاً من خطة أردوغان، أو أخرتها قليلاً، بعدما بات في حاجة الى دفع فاتورة هذا الموقف، أو على الأقل كبح بعض مطامحه السياسية في الداخل. ولعلّ خطاب كمال كيليتشدار أوغلو، رئيس «حزب الشعب الجمهوري» المعروف تاريخياً بقربه من الجيش التركي، قد حمل رسالة مبطنة الى أردوغان مفادها ان رفض المعارضة للانقلاب لن يكون بلا ثمن سياسي من أردوغان، وخصوصاً في قوله إن «ما جرى يفتح صفحة جديدة لبناء الديمقراطية في تركيا». واذا كان أردوغان يأمل بتكرار سيناريو الرايخستاغ الالماني، فإن موقف المعارضة التركية ربما يضعه أمام سيناريو آخر، هو سيناريو الانقلاب الفاشل ضد ميخائيل غورباتشوف في مطلع التسعينات، والذي كان النقطة الفاصلة لتحوّلات سياسية خطيرة، قادت بوريس يلتسين الى الصدارة، وكرست الانهيار الفعلي للاتحاد السوفياتي. لا شك أنّ تطورات الأيام القادمة وكيفية تلقي الجيش كمؤسسة لانتقام «الزعيم الأوحد»، سيكون لها أثر حاسم على مستقبل النظام والحكم الذي لا شك أيضاً أنه سيعيد النظر بعلاقاته الخارجية.
من هنا، فإن أردوغان يبدو أمام خيار من اثنين. فإمّا أن يذهب بعيداً في حملته البوليسية ضد الغولنيين، ويقتنص الفرصة لاحقاً للانقضاض على معارضيه الشرعيين، وهو ما سيجرّ البلاد إلى حافة حرب أهلية، سواء بين العلمانيين والدينيين، أو بين الأتراك والأكراد، أو حتى بين السنة والعلويين، وهو ما لن يقبل به الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، وبالتالي فإنّ سيناريو الانقلاب سيتكرر. وإمّا أن يتعامل مع الواقع ببراغماتية، فيتخلى عن طموحاته كحاكم مطلق، ويعيد تأسيس مفهوم الشراكة السياسية والقومية في البلاد، بما يجنّب تركيا مصيراً مشابها لمصير دول مجاورة.
وأيا تكن خيارات أردوغان، فالمؤكد أن الرئيس التركي خرج خاسراً من الانقلاب الفاشل، فسياسة التوسع الاقليمي، والنزعة العثمانية الجديدة، التي شكلت أساس حكمه، تتلاشى اليوم، أو انها باتت مجمّدة لسنوات طويلة، في ظل انكفاء «حزب العدالة والتنمية» الى الداخل، للملمة تداعيات الحركة الانقلابية… وبطبيعة الحال فإن الملفات الاقليمية المعقدة، التي كانت تركيا احد اللاعبين الفاعلين فيها، ستتبدل قواعدها، بالانكفاء التركي الداخلي، واول تلك الملفات سوريا، التي ستخلو الساحة فيها للاعبين اثنين رئيسيين، هما الولايات المتحدة وروسيا.
هكذا فشل الانقلاب
كانت محاولة انقلاب غريبة تنتمي للقرن العشرين وانهزمت أمام تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين، حيث لم يتمكن الانقلابيون من عزل الرئيس عن الشعب، وهو عنصر أساسي في نجاح أي انقلاب عسكري.
فقد تمكن أردوغان من التواصل مع أنصاره عبر تطبيق «فايستايم»، فكانت نقطة التحول التي أطاحت بالانقلاب والانقلابيين الذين تصرفوا خارج تسلسل قيادة الجيش.
وقام المتمردون بخطوتهم عندما كان الرئيس بعيدا عن أنقرة واسطنبول في عطلة في منتجع مرمريس. وسيطروا على المطار الرئيسي وأغلقوا جسرا فوق مضيق البوسفور في اسطنبول وأرسلوا دبابات للبرلمان ولأنقرة وللسيطرة على مفارق الطرق الرئيسية وأذاعوا بيانا على محطة «تي. آر. تي» الرسمية، أعلنوا فيه فرض حظر للتجول وأمروا الناس بالبقاء في منازلهم.
كل شيء سار على ما يرام في الساعات الأولى، حتى ظهر أردوغان بعيداً عن قبضة الانقلابيين الذين لم يعتقلوا أي قيادة من قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم أو إغلاق محطات التلفزيون الخاصة أو اتصالات الهواتف المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي مما مكن أردوغان ومساعديه من دعوة مؤيديهم بسرعة للنزول إلى الشوارع لإحباط الانقلاب، حتى استعاد الرئيس زمام الأمور بحلول الصباح.
وسارع زعماء أحزاب المعارضة الثلاثة بإدانة الانقلاب وعجت وسائل التواصل الاجتماعي بدعوات للتظاهر ضده.
وتمثلت المفاجأة الاولى في ما نشره معهد «ستراتفور» المعروف بارتباطه بأجهزة الاستخبارات الاميركية، عن إحداثيات انطلاق طائرة أردوغان من «مطار دالامان» بالقرب من منتجع مرمريس، نحو الساعة 22:40 من مساء الجمعة بتوقيت غرينتش، فيما ظلّت الطائرة تدور في مسار تحليق ثابت جنوب اسطنبول، بينما كان يُسمع أزيز زخّات من الرصاص في مطار اتاتورك، قبل أن تهبط قبيل الساعة الثالثة من فجر السبت.
وخلال رحلته من «دالامان» إلى اسطنبول، تحرّشت طائرتا «أف-16» تابعتين للانقلابيين بطائرة أردوغان، لكنّهما سمحتا له بإكمال رحلته. وقال ضابط عسكري سابق مُطّلع على تطورات الأحداث لوكالة «رويترز» إن «طائرتين على الأقل من طراز «أف-16» تحرّشتا بطائرة أردوغان وهي في الجو في طريقها إلى اسطنبول. وثبّتت الطائرتان راداريهما على طائرته وعلى طائرتين أخريين من طراز أف-16 كانتا تحرسانه» دون أن يتم أي إطلاق نار.
وقد بدأت الشرطة التركية عملية تفتيش في قيادة «إمداد الوقود العاشرة» في قاعدة «أنجيرليك» التي يستخدمها «التحالف الدولي» بقيادة واشنطن ضدّ تنظيم «داعش» في العراق وسوريا. وأفادت مصادر في النيابة العامة في أضنة بأن طائرات الإمداد بالوقود، التي زوّدت طائرات «اف 16» التابعة للانقلابيين التي كانت تقصف أنقرة خلال الانقلاب، حلّقت من القاعدة التي يستخدمها الأميركيون.
وكانت السلطات التركية قد اعتقلت الجنرال في سلاح الجو بكير ارجان فان و12 ضابطاً في القاعدة بعد فشل الانقلاب.
وأدى غلق القاعدة «انجيرليك» السبت الماضي الى تعليق غارات التحالف، لكن واشنطن أعلنت الاحد (بعد اتصال أوباما بأردوغان) استئناف العمل في القاعدة الجوية التي كانت الولايات المتحدة قد حصلت على موافقة أنقرة لاستخدامها في العام 2015. وقال مسؤولون اتراك إنهم يشتبهون في ان القاعدة القريبة من الحدود مع سوريا استُخدمت في تموين طائرات عسكرية سيطر عليها منفذو محاولة الانقلاب.
تركيا .. تاريخ من الانقلابات
شهدت تركيا طيلة عقود انقلابات عسكرية عدّة، عمّقت الخلافات السياسية في دولة قامت على أنقاض الإمبراطورية العثمانية:
– الانقلاب الأول: قاده مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الدولة الحديثة، فأطاح بدولة الخلافة في العام 1922 وأعلن سقوطها رسمياً 1924، ودخل إسطنبول عقب تراجع قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الاولى من دون أي اشتباكات.
– الانقلاب الثاني: في العام 1960 شهدت تركيا أول انقلاب عسكري، حيث دبر قادة ضباط وطلاب عسكريون من الجيش انقلاباً عسكرياً سلمياً على الحزب الديمقراطي الحاكم، للمطالبة بإصلاحات سياسية، وأعدم رئيس الوزراء عدنان مندريس، زعيم الحزب الديمقراطي بسبب توجهاته الإسلامية.
– الانقلاب الثالث: حدث في العام 1971، وسمّي بـ«انقلاب المذكرة»، في إشارة الى المذكرة التي أرسلها الجيش التركي بدلاً من الدبابات، كإنذار أخير من القوات المسلحة.
– الانقلاب الرابع: وفي العام 1980، قاد الجنرال كنعان إيفرين، مع مجموعة من الضباط، انقلاباً عسكرياً أطاح حكم إحسان صبري جاغليانكيل والحكومة المدنية وفرض الأحكام العرفية، وكان الانقلاب مدعوماً من الولايات المتحدة الأميركية التي فقدت حليفها الرئيسي في المنطقة بعد الثورة الإيرانية في العام 1979، فتلقت تركيا بعد الانقلاب مبالغ كبيرة من المساعدات الاقتصادية، من قبل منظمة التعاون والتنمية، والمساعدات العسكرية من حلف شمال الأطلسي.
– الانقلاب الخامس: وصف بأنه انقلاب ناعم، وجرى في العام 1997، في اطار ما عرف أيضًا بـ«ثورة ما بعد الحداثة»، والتي تشير إلى القرارات الصادرة عن قيادة القوات المسلحة التركية في اجتماع مجلس الأمن القومي يوم 28 شباط 1997، التي عجلت باستقالة رئيس الوزراء نجم الدين أربكان من حزب الرفاه وإنهاء حكومته الائتلافية.
ما هو «الكيان الموازي»؟
قفز اسم فتح الله غولن إلى صدارة الأحداث بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، حيث اعتبرته الحكومة التركية المشتبه الأول في الانقلاب مطالبة الولايات المتحدة بتسليمه.
فتح الله غولن |
وتتهم الحكومة التركية جماعة فتح الله غولن بتشكيل «الكيان الموازي»، وهو «تنظيم سري» يقولون إنه يسعى إلى تقويض حكم رجب طيب أردوغان، وقد اتهم باستغلال مناصب للتنصت غير المشروع على المواطنين وفبركة تسجيلات صوتية كما أنها وقفت وراء حملة الاعتقلات الأخيرة في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2013، بحجة مكافحة الفساد.
تشكلت حركة غولن في مدينة إزمير سنة 1970، باعتبارها حركة صوفية دعوية، لينتهي بها المطاف بوصفها شركة ضخمة عابرة للقارات إلى حركة اجتماعية-اقتصادية، تُعيد توفيق أوضاعها الاقتصادية وتصوّراتها وأهدافها وأولوياتها بما لا يتصادم مع الدولة، سواء في تُركيا أو في الدول الأجنبية المضيفة لنشاطاتها. أي صارت الحركة في الداخل التركي تجسيداً للتغيُّرات التي واكبت إعادة تشكُّل الاقتصاد التُركي، ومعه الخطاب والممارسة الدينية، أي صارت فاعلاً اقتصادياً متديناً يركّز على مسلمي تركيا.
يعيش غولن الآن في ولاية بنسلفانيا الأميركية ويقال إن لهُ شبكة كبيرة وخفية من المدارس والمراكز البحثية والشركات ووسائل الإعلام ويعتبر ثاني أغنى رجل في تركيا، إذ يمتلك في أميركا فقط ما من يقرب 100 مدرسة مستقلة!
Leave a Reply