عماد مرمل
تشغل التطورات الدراماتيكية في العراق، عواصم القرار على المستويين الاقليمي والدولي، بالنظر الى ما رتبته غزوة تنظيم «داعش» من وقائع جديدة، تكاد تعيد رسم حدود المنطقة وخرائط دولها، حتى بات البعض يترحم على سايكس وبيكو اللذين توليا قبل عشرات السنين إجراء عملية «الضم والفرز» التي أنتجت الحدود الحالية المترنحة. وإذا كان التضخم في دور «داعش» خلال الفترة الاخيرة يطرح الكثير من علامات الاستفاهم والتعجب، فان المقاربة الايرانية لما جرى لا تبعد الولايات المتحدة الاميركية عما يفعله «داعش» في العراق، أو على الاقل، هي غضت الطرف عما قام به هذا التنظيم بعدما شعرت أنه يفيد مشروعها القائم على تفتيت المنطقة الى شرق أوسط جديد.
وبحسب تلك المقاربة، فإن واشنطن تعتمد مقولة «الغاية تبرر الوسيلة»، وبالتالي هي باتت تشعر أن الذين يرتدون ربطات العنق وتفوح منهم روائح أغلى العطور ليسوا بالضرورة قادرين على تلبية متطلبات المصالح الاميركية، في حين ان المتطرفين الآتين من كهوف الماضي قد يكونون أكثر ملاءمة وخدمة لهذه المصالح.
وتجزم المقاربة الايرانية لما حصل في العراق ان الولايات المتحدة تستطيع عبر الاقمار الصناعية ان تحصي أنفاس القاطنين في الشرق الاوسط وان ترصد ارقام لوحات السيارات في طهران، فهل يعقل انها لم تلتقط إشارات كافية حول استعداد «داعش» لشن هجوم واسع على مدينة الموصل وغيرها من المناطق العراقية؟
هذا السؤال الايراني, يصل الى استنتاج ان واشنطن تركت «غزوة» داعش تأخذ مداها، سعيا الى تغيير قواعد اللعبة وخلط الاوراق، مفترضة ان من شأن ذلك ان يزيد الضغط على إيران ومحور المقاومة والممانعة. وهنا تبرز الخشية من ان تنعكس تطورات العراق على مسار المفاوضات النهائية والحاسمة بين إيران والغرب حول الملف النووي، في حال توهم البعض في الغرب الاميركي او الاوروبي بأن تمدد «داعش» على الارض قد يتيح المزيد من التشدد والتسلح بورقة ضغط ومساومة، خلال التفاوض مع طهران، لانتزاع تنازلات منها وإجبارها على التراجع عن حقوقها في استخدام الطاقة النووية السلمية.
ولعل اهم ما تلفت اليه المقاربة الايرانية لتطورات العراق هو ان فرص نجاح المفاوضات او إخفاقها تبدو متساوية في هذه المرحلة، مع تنبيه شديد الوضوح الى ان تعثرها سيتسبب بمزيد من الاحتدام في الساحات الاقليمية الساخنة وعلى وجه التحديد الساحات التي تقع على خط التماس الاميركي- الايراني، وأما الوصول الى نهاية سعيدة فسينعكس تسويات او بالحد الادنى الى ربط نزاع في تلك الساحات.
الثابت في ايران، انها لطالما اكدت حرصها على إنجاح المفاوضات النووية، والقيادة الايرانية بذلت وما تزال أقصى الجهود الممكنة، لدفعها قدما الى الامام وتتويجها باتفاق نهائي، ويكفي صدور فتوى تحريم القنبلة النووية، فما هو المطلوب حتى يطمئن الخائفون؟
المستغرب في ايران لا بل المزعج لها هو ان بعض الدول في المنطقة تبدو متوجسة وقلقة من إمكانية الوصول الى اتفاق بين طهران وواشنطن، كما هي حال المملكة العربية السعودية المسكونة بالتوتر والهواجس.
أكثر من مرة، سأل صنّاع القرار في إيران أنفسهم: لماذا يكرهنا السعوديون، ولماذا يصرون على وضع أصبعهم في اعيننا كلما سنحت لهم فرصة لذلك؟ والاكثر من مستهجن بالنسبة اليهم ما يقولون انه إمعان وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل على سبيل المثال في إطلاق المواقف المتوترة والمتشنجة ضد طهران، في حين انه لا يُسجل لوزير الخارجية الايراني ان فعل الامر ذاته او بادل التوتير بالتوتير.
وبحثا عن إجابة شافية وتفسيرات واضحة، وسعيا الى فهم أفضل لنيات الرياض ونمط تفكيرها، فإن قسم التخطيط الاستراتيجي التابع لوزارة الخارجية الايرانية قد خاض في تجربة «محاكاة» للسياسة السعودية، تنطلق من فكرة ان تضع طهران نفسها في مكان الرياض وان تتقمص شخصيتها ومصالحها، لعلها تستطيع سبر أغوار العداء السعودي المستحكم للجمهورية الاسلامية وتدرك خلفياته الحقيقية. واما الخلاصة التي تبدت فتظهر ان واحدة من أبرز نقاط الخلل في سياسة السعودية إنما تكمن في السعي الى توسيع دائرة النفوذ من دون مراعاة قواعد العدالة والانصاف والتوازن والمنطق، ومن دون الاخذ بعين الاعتبار المصالح الايرانية الحيوية والاستراتيجية التي تتعلق بالامن القومي، ولا تحتمل اي عبث بها، سواء في العراق او البحرين او لبنان او سوريا أو اليمن.
وثمة محطات عدة راسخة في الذهن الايراني، تُبين كيف ان طهران عضت على الجرح مرارا، وكيف انها أظهرت قدرا عاليا من ضبط النفس، في مواجهة العداء السعودي الذي يتخذ أشكالا عدة. وابرز تلك المحطات:
– الحادثة الشهيرة التي وقعت في الماضي واسفرت عن قتل 400 حاج إيراني في السعودية خلال تأديتهم مناسك الحج، فتلك المجزرة اصابت طهران بجرح عميق، ومع ذلك تفادت الانفعال في رد الفعل وتجنبت الاندفاع نحو صدام مباشر مع الرياض.
– حينما ادخلت السعودية قواتها العسكرية الى البحرين لقمع الحراك الشعبي، برغم ما تمثله هذه الدولة من عمق حيوي لإيران ومن أهمية استراتيجية لامنها القومي، وبرغم هذا الاستفزاز الواضح لايران امتنعت طهران عن الرد بالمثل، ولم يستطع أي جهاز مخابرات ان يقدم دليلا على انها قدمت سلاحا الى ابناء البحرين الذين استخدموا الحجارة الموجودة عندهم في مواجهة القمع، وليس حجارة الارصفة في شوارع طهران.
– حينما تورطت السعودية أيضا في مشروع إسقاط الحليف الاستراتيجي لطهران، الرئيس السوري بشار الاسد، عبر تقديم كل أشكال الدعم الى المعارضة المسلحة، وها هي تحاول تهديد المصالح الايرانية في العراق.
يجزم الايرانيون انه برغم كل هذه المنعطفات الحادة، فإن طهران لم تحرف وجهة سيرها نحو القضية المركزية (فلسطين)، ولم تنعطف نحو الزواريب، لانها تعتبر ان المعركة الاصلية ليست مع السعودية، ولا يجب ان تكون كذلك.
المبدأ الراسخ والنهائي لدى ايران هو رفضها الانزلاق الى اي فتنة مذهبية، سنية – شيعية، لانها تعلم جيدا ان مثل هذه الفتنة لا تخدم سوى الاهداف الاميركية والاسرائيلية، الرامية الى شرذمة المنطقة وتفتيتها على اساس معيار مذهبي. فطهران التي تتحمل وطأة الكثير من الاتهامات الظالمة، تحاذر الدخول في صراعات جانبية، لئلا تنحرف المواجهة عن وجهتها الاصلية، ضد العدو الاسرائيلي الذي يحتل فلسطين.
وفي معرض التشديد على وجوب عدم التورط في الفتنة، تخلص المقاربة الايرانية لتطورات العراق ومنطقة الشرق الاوسط الى ان مرشد الثورة السيد علي خامنئي سبق له أن أكد ضرورة اعتماد الخطاب الوحدوي الذي يجمع، ونبذ كل سلوك يقود الى التفرقة، بل ذهب أبعد من ذلك حين اعتبر ان السنة هم «أنفسنا»، وليسوا «الآخر».
Leave a Reply