يختلف البرلمان العراقي عن جميع برلمانات العالم. فبلد مثل العراق متخم بالأزمات الأمنية والاقتصادية، يحافظ في بيته التشريعي على 13 نائباً يتهمهم بعض زملائهم من لوائح مناوئة لهم بالإرهاب (وليس بأقل منه!) وقد حاولوا جمع تواقيع على عرائض تطالب برفع الحصانة عنهم. وهو أيضاً لا يوجه الإنذارات للنواب المتغيبين عن حضور جلساته المهمة، وتعد ساعات العمل فيه ضئيلة مقارنة بعدد القوانين المهمة التي يركنها على رفوف الخلافات السياسية. كما أن هذا البرلمان يؤمّن رواتب وموازنة للنواب هي الأعلى في العالم. راجع مقال «مرتبات الحكّام في العراق: هدر للمال العام؟»
عمليات.. كبرى
في أيلول (سبتمبر) الماضي، استطاع التيار الصدري، الذي يتزعمه رجل الدين الشاب مقتدى الصدر أن يلعب لعبة التسقيط السياسي لبعض نواب ائتلاف رئيس الوزراء نوري المالكي. هؤلاء أصبح بعضهم مدعاة سخرية الشارع العراقي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، بدأت حنان الفتلاوي، أكثر الشخصيات حضوراً على شاشات التلفاز في ائتلاف رئيس الوزراء، لعبة كشف الأوراق، إذ أكدت أن جواد الشهيلي عضو لجنة النزاهة عن التيار الصدري في البرلمان، قام بإجراء عملية جراحية بمبلغ 15 مليون دينار، متهمة إياه بأنه اختلس المال العام، وأن العملية أُجريت قبل أن يدخل البرلمان أصلاً. لكن الشهيلي، المعروف بلسانه السليط، سارع إلى كشف قائمة طويلة عريضة من عمليات جراحية قام بها نواب من أموال الحكومة العراقية، بعضها بدت مضحكة ومبكية في آن، فأحد نواب دولة القانون، أجرى عملية تجميل لزوجته على حساب البرلمان.
أما الصاعقة فكانت إجراء النائب خالد العطية، الرجل المعمم والبارز في الائتلاف الشيعي، عملية «بواسير» بمبلغ 59 مليون دينار.سرعان ما تحوّل رقم «59» رمزاً لمؤخرات النواب، وسرعان ما حوّل شبّان «بواسير» النائب إلى مجموعة نكات بدأت ولم تنته، وإحدى هذه النكات جاءت على شكل بوستر يحمل صورة النائب المعمم مصحوبة بالرقم «59» والكتابة فوقها «مشاريع عملاقة»، في إشارة إلى سلسلة أفلام وثائقية عن بناء جسور وبنايات بمدد قصيرة. لكن العطيّة سارع إلى دفع تهمة إجرائه عملية «بواسير» وادعى انه… اجرى عمليّة جراحية من نوع آخر.
أموال تُهدَر.. بلا طائل
وبحسب وثيقة مسربة، فإن العمليات الجراحية بعضها تجميلية للأسنان والوجه ــ التي قام بها نواب البرلمان كلفت ميزانية العراق حوالي 450 مليون دينار، أي ما يعادل حوالي 400 ألف دولار أميركي. ويشير بعض النواب إلى أن هذا الرقم مبالغ به، إلا أن رئاسة البرلمان لم تكشف للإعلام جدول العمليات الجراحية الحقيقي ولا مبالغ كلفتها، وعما إذا كان بعض النواب قام فعلاً بإجراء عمليات للزوجات والأبناء من مخصصات أموال البيت التشريعي العراقي.
وتعدّ هذه الأموال، مقارنة بموازنة مجلس النواب الداخلية «قطرة من جرة»، إذ حاول البرلمان تمرير موازنته لعام 2014 والتي بلغت 528 مليار دينار، أي ما يعادل حوالي 450 مليون دولار. إلا أن غياب 136 نائباً عن جلسة إقرارها، ووقوف منظمات مدنية وبعض السياسيين ضدها، حالت دون ذلك. وتشير اللجنة المُشَكَّلة لغرض مناقشة الموازنة، إلى أن عام 2014 سوف يشهد زيادة 35 نائباً في المجلس، الأمر الذي «اضطر» البرلمان الى زيادة نسبة موازنته بـ16 بالمئة.
ورصدت الموازنة 12 ملياراً و300 مليون دينار لمخصصات الضيافة، و550 مليون دينار مخصصات ونفقات سفر، اضافة الى 100 مليون نفقات سفر إضافية، ورصد أيضاً مبلغ 250 مليون دينار للنشر والإعلام، و100 مليون أخرى للاشتراك في الصحف، كما رصد ثلاثة مليارات و350 مليون دينار لمخصصات ونفقات الإيفاد، ورُصد أيضاً 33 ملياراً و520 مليون دينار مخصصات لـ«الأرزاق» (طعام النواب والموظفين في البرلمان)، وأخيراً رصد 22 ملياراً و275 مليون دينار مخصصات استثنائية، ولا يعرف أحد ما المجالات الاستثنائية التي سيُصرف فيها هذا المبلغ الضخم.
المضحك المبكي في الموازنة ما تضمنته من شراء «دراجات هوائية» و«سيارات حمل» (أي مركبات شحن!)، و«شراء ملابس لموظفي البرلمان». والذي يعيش في العراق، يعرف أن الدراجات الهوائية لن يستعملها النواب مطلقاً مع وجود أرتال السيارات المصفحة التي تبلغ حوالي 2800 سيارة، موزعة على الرئاسات الثلاث وأعضاء البرلمان والوزراء، كما أن هذه الدراجات لا تتلاءم مع النائبات الإسلاميات اللواتي يشكلن النسبة الكبرى بين النساء في البرلمان.
نواب.. عاطلون
ويبدو أن وقت النواب العراقيين الفائض يؤهلهم، من حيث المبدأ، لقضاء وقتهم في ركوب الدراجات الهوائية وممارسة ألعاب الخفة داخل منازلهم الفارهة، التي تخصّص لهم فور تسلمهم مهامهم التشريعية، حيث يعمل النائب العراقي ساعة واحدة في البرلمان يومياً.
وبحسب «مركز المعلومة» المعني بمتابعة نشاط مجلس النواب، فإن اجمالي عدد ساعات عمل البرلمان حتّى الآن، وهو تشكّل العام 2010، بلغت 948 ساعة. وتتراوح أوقات الجلسة البرلمانية ما بين 3 إلى 4 ساعات في الغالب، واحتسب المركز ساعات العمل على أساس 4 ساعات للجلسة، وخرج بنتيجة أن البرلمان يعمل 26,3 ساعة شهرياً، ما يعني أن عمله لا يتعدّى الساعة الواحدة يومياً.
وغاب نحو 10 نواب، منهم من كان وزيراً، ومن كان رئيس وزراء سابق، عن جلسات البيت التشريعي طول عمر البرلمان الحالي، وخلال الفصل التشريعي الثاني (في أشهر الصيف الثلاثة)، سجلّ البرلمان 391 حالة غياب بدون عذر، و1593 غياباً بعذر. ويسجّل غياب النواب في المحافظات التي تشكو من خلل أمني، ومن نقص في الخدمات، أكثر من النواب الذين تتمتع محافظاتهم بشيء من الطمأنينة. وبحسب المرصد النيابي، فإن نواب محافظة صلاح الدين والأنبار وبغداد هم الأكثر تغيبّاً بين زملائهم، فيما يسجل نواب إقليم كردستان، المستقرّة نسبياً، أعلى نسبة حضور داخل قبّة البرلمان.
ويركن البرلمان نحو 50 مشروع قانون معداً للتصويت، بسبب الخلافات حولها بين الكتل السياسية، على الرغم من أن هذه القوانين تعد مهمّة جداً لحياة العراقيين، فهي تتضمن مشروع قانون التقاعد الموحد، ومشروع قانون تعديل قانون التنظيم القضائي، ومشروع قانون الجامعات والكليات الأهلية، ومشروع قانون التضمين (وهو مشروع قانون يفرض غرامات مالية على الموظفين او الشركات التي تلحق ضرراً بالمال العام)، ومشروع قانون وزارة النقل، ومشروع قانون الهيئة الوطنية للمعلوماتية… وهناك أيضاً نحو 100 مشروع أو مقترح قانون تمت قراءتها في البرلمان، إلا أنها لم تصل مرحلة التصويت بعد، رغم مرور زمن طويل عليها. وتوجد في البرلمان العراقي ظاهرة «الفضائيين»، وهؤلاء موظفون يمنحون نصف راتبهم الشهري للمدير أو غيره من أجل التغاضي عن غيابهم عن الدوام طيلة أيام الشهر. ويرى 74 بالمئة من العراقيين أن أداء الكتل السياسية في البرلمان «ضعيف»، فيما يعتقد 6 بالمئة أن أداء النواب «مقبول»، ويصوّت 18 بالمئة من العراقيين على أن أداء النواب «جيد جدّاً»، بحسب استفتاء أجراه المرصد النيابي العراقي.
الذاكرة مثقوبة؟
وبانتظار الانتخابات النيابية في نيسان (أبريل) المقبل، يراهن أعضاء البرلمان الحالي على ذاكرة العراقيين التي يعتقدون انها مثقوبة. وبعضهم ما يزال يراهن على «البطانيات» والمدافئ وأكياس الاسمنت التي قُدِّمت في الانتخابات الماضية كرشى لشراء الأصوات، وهم باشروا حملاتهم الانتخابية مبكرين. إلا أن كشف حالات الفساد داخل البرلمان، اضافة الى ضعف أداء أعضائه، أصبحا مادة يومية واسعة الانتشار في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، تحذر من إعادة التصويت لأعضاء البرلمان الحالي، لكي «لا يعود الكسالى والمفسدون الى البيت التشريعي»، على حد وصف أحد البوستات المنتشرة على صفحات «الفيسبوك». لكن المزاج الانتخابي سيتحدد قبيل إجراء التصويت بايام قليلة… هذا لو جرت الانتخابات في موعدها، بينما تعصف بالعراق موجات من العنف عالي الخطورة، بعضها مبرمج، وآخر يتأسس على الأول وعلى انغلاق الأفق العام.
المصدر: السفير اللبنانية
Leave a Reply