«قد يكون توصيف جورج دبليو بوش بأنه الرئيس الأسوأ في التاريخ الأميركي موضع جدل طويل، لكن قراره بغزو العراق هو بدون أدنى شك أسوأ قرار تم اتخاذه من قبل رئيس أميركي». هذه العبارة الصائبة تمثل إلى حد بعيد الحقيقة التي لم يستطع الكاتب الأميركي جان ادوارد سميث تجاوزها وهو يضع كتابا لسيرة الرئيس بوش الابن.
ولعله من المفيد إعادة التذكير بقرار بوش الكارثي بغزو العراق الذي أدخل، لا العراق فقط، وإنما كامل منطقة الشرق الأوسط في دوامة من الصراعات الطائفية والحروب الأهلية، أدت في نهاية المطاف إلى ولادة تنظيم «داعش» الذي يمكن اعتباره أشرس تنظيم إرهابي في التاريخ البشري الحديث، إذ لا تقتصر تهديداته على المنطقة العربية لوحدها وإنما تمتد إلى جميع أصقاع العالم.
ومناسبة الحديث عن الغزو الأميركي للعراق، هو صدور «تقرير شيلكوت» البريطاني الذي استغرق إعداده سبع سنوات لمعرفة الأسباب التي دفعت رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير للوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في عدوانها السافر على العراق.
وخلص التقرير إلى استنتاجات رئيسة كان في مقدمتها حماسة بلير العمياء لدخول الحرب إلى جانب بوش الذي تلقى من حليفه البريطاني مذكرة قبيل الحرب، جاء فيها «سأقف إلى جانبك مهما حدث».
كما تضمن التقرير وثائق تفيد بأن قرار شن الحرب على العراق قد استند على معلومات استخباراتية مضللة، من بينها امتلاك النظام العراقي لأسلحة دمار شامل، وإقامته علاقات سرية مع تنظيم «القاعدة». وكانت إدارة بوش قد روّجت الكثير من الأكاذيب والأخبار المفبركة، خاصة في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول، لتجييش مشاعر الأميركيين تمهيدا لإعلان غزو العراق تحت عناوين محاربة الإرهاب ليتبين اليوم أنه كان السبب الأهم لتفشي الارهاب وتوحشه.
وتسبب صدور التقرير، يوم الأربعاء الماضي، بصدمة قوية للبريطانيين، حيث عبرت أعداد من عائلات الجنود البريطانيين القتلى في العراق عن سخطها على رئيس الوزراء الأسبق، الذي وجد نفسه مضطرا إلى عقد مؤتمر صحفي على الفور، حيث أعلن مسؤوليته الكاملة عن قرار دخول المملكة المتحدة الحرب إلى جانب أميركا، قائلا: أنا أتحمل كامل المسؤولية وأعبر عن ألمي وأسفي وأقدم اعتذاراتي…
كما أكد التقرير أنه -رغم التحذيرات الواضحة- تم التقليل من العواقب المترتبة على الغزو، فالتخطيط والإعداد لعراق ما بعد صدام كان غير ملائم تماما، واعتبر أن بلير لم يتأكد من وجود خطة مرنة وواقعية متكاملة لمعالجة المخاطر المحتملة. وتابع التقرير بتأكيد أن «آثار الفشل في التخطيط والتحضير لما بعد الاجتياح ماتزال ماثلة».
وتندرج أهمية النتائج التي توصل إليها «تقرير شيلكوت» في أنها تمكننا من فهم واقع الفوضى الذي يغرق بلدان منطقة الشرق الأوسط، فقد بات مؤكدا أن أصحاب قرار الحرب على العراق قد أخرسوا كل الأصوات الحكيمة التي طالبتهم بالتعقل والتأني والتفكير مليا في مستقبل العراق، وجيرانه، بعد الحرب.
كما يمكن في هذا السياق، تحميل الإرادات السياسية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة عن ولادة أشرس تنظيم إرهابي عرفه التاريخ البشري، ونقصد به تنظيم «داعش» الذي جاء بمثابة نتيجة تلقائية لإسقاط نظام صدام حسين واجتثاث حزب البعث الحاكم وحل الجيش العراقي ووضع دستور طائفي حول الجيش العراقي وكبار المسؤولين السابقين في نظام صدام حسين الى جيش كبير من العاطلين عن العمل.
إن الفوضى التي نتجت عن غزو أميركا للعراق لم تتوقف بعد انسحاب الأميركيين، وقد انتقلت شراراتها الحارقة إلى بلدان أخرى تحت مسمى «الربيع العربي» الذي نال أيضاً دعم الأميركيين والبريطانيين أنفسهم لإشعال الصراعات الطائفية والحروب الأهلية وتفتيت دول المنطقة وجيوشها وتحويلها الى قطعان داعشية جديدة، ناهيك عن تهديد التاريخ الثقافي والحضاري والإنساني للمنطقة ومحاولة نسفه من جذوره.
لقد استغرق إعداد التقرير مدة سبع سنوات للتحقيق في الأسباب التي دفعت بلير للوقوف بجانب بوش، على الرغم من أن خسائر البريطانيين لا تكاد تقارن بالخسائر الأميركية جراء الحرب على العراق، فقد قتل 179 جنديا بريطانيا في العراق في حين قتل أكثر من 4500 جندي أميركي، إضافة إلى تكاليف الحرب على الاقتصاد الأميركي والتي تقدر بـ2 تريليون دولار، بحسب «معهد واطسون للدراسات العالمية في جامعة بروان».
لعل القراء يتذكرون تلك اللوحة الدعائية التي نصبت في الولايات المتحدة في أعقاب الغزو الأميركي للعراق، والتي تقول: «لقد أنجزت المهمة»، ولا شك أن العالم يتساءل بمزيد من الشك عن طبيعة «المهمة التي تم إنجازها في ذلك الحين»!
Leave a Reply