نبيل هيثم – «صدى الوطن»
لم تتغيّر نظرة دونالد ترامب للسعودية. «البقرة الحلوب» لا تزال تثير لعاب الرئيس الأميركي القادم من عالم الأعمال، والذي يجيد العزف على الوتر الحساس لعملائه التجاريين كما السياسيين.
في المقابل، لم تتغيّر نظرة السعودية إلى الولايات المتحدة، فمحمد بن سلمان الذي يحل ضيفاً عليها لثلاثة أسابيع، يبدو قادراً على تغيير كل شيء في مملكة آل سعود باستثناء أمر واحد: المس بالقواعد الحاكمة للعلاقات السعودية–الأميركية، والتي تكرّست على النحو الذي نعرفه اليوم، منذ اللقاء الشهير على متن مدمّرة حربية في البحر الأحمر، بين جدّه عبد العزيز والرئيس ثيودور روزفلت.
قد يكون مفهوماً بالنسبة إلى دونالد ترامب أن يكرّس يوماً تلك العلاقة النفعية مع السعودية، طالما أن محمد بن سلمان هو ذلك «الزبون الكبير» –والتوصيف هنا لسيّد البيت الأبيض – الذي يمكن من خلاله ضخ «مليارات إضافية» إلى خزينة الولايات المتحدة المثقلة بفعل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة للرأسمالية العالمية منذ تسعينيات القرن الماضي، والمهددة بالتجدّد في المستقبل القريب، بحسب ما يقول المحللون الاقتصاديون الأكثر موضوعية.
جشع
ولكنّ ما هو غير مفهوم، أن يصرّ محمد بن سلمان، وفي ظل النزف المستمر في الخزينة السعودية بفعل السياسات النفطية المتهوّرة والإنفاق غير المحدود على المغامرات العسكرية، على أن يجعل مشروعه الاقتصادي –الذي يصفه حتى المقرّبون في دوائر الحكم السعودي بأنه الفرصة الأخيرة لمنع الانهيار– رهناً بجشع أميركي، عبّر عنه ترامب بشكل صريح حين علّق على حجم صفقة «صغيرة» لشراء السلاح الأميركي بقيمة نصف مليار دولار، بالقول «هذا مثل الفستق بالنسبة إليك… يجب أن يزيد المبلغ»!
هكذا لم يستطع دونالد ترامب إخفاء الجشع بالضيف «الثقيل»، الذي يحلّ ضيفاً على الولايات المتحدة، تماماً كما يحل الرجل «الخليجي» –بصورته النمطية المعروفة– ضيفاً على أحد الملاهي الليلة في عواصم اللذة!
بهذا الشكل، يُستقبل محمد بن سلمان في المدن الأميركية التي سيجوبها خلال الأسابيع الثلاثة، حاملاً «الخير» للشركات الأميركية، باختلاف قطاعاتها، من التسليح والتكنولوجيا وصولاً إلى الخدمات المالية والترفيه.
ومن غير الواضح بعد، ما إذا كانت الزيارة الحالية ستُنتج تقدماً في دفع الأميركيين إلى الانخراط في مشروع سعودي لبناء 16 مفاعلاً نووياً، بميزانية تقارب 100 مليار دولار على مدى الأعوام العشرين المقبلة، وهو مشروع دونه عثرات أمنية وسياسية ومنافسة عالمية.
وإذا كانت السياسة اقتصاد مكثّف، فإنّ لكل تلك الصفقات هدفاً واحداً، بالنسبة إلى السعودية، وهو «تجديد التفويض» الأميركي الممنوح لجدّه منذ عقود، من بوابة دفع الشرق الأوسط إلى مزيد من التوتر، عبر تجديد النزاع مع إيران، الذي سعى باراك أوباما إلى إقفاله قبيل مغادرته البيت الأبيض بتوقيعه تسوية فيينا النووية.
إيران
ولا شك في أن محمد بن سلمان –ونظام آل سعود بشكل عام– قد استبشر «خيراً»، حين خاض دونالد ترامب حملته الانتخابية تحت شعارات تصعيدية ضد إيران، والوعد بالانسحاب من الاتفاق النووي، الذي راهن عليه العالم بأسره لتحقيق «سلام نووي»، من شأنه أن يمهّد إلى استقرار اقليمي، يدرّ المليارات على الصناعات الغربية المتعطّشة لصفقات كبرى، وعلى خزانات الحكومات الأوروبية الباحثة عن فرص لتعزيز نموّ اقتصادياتها، وذلك ضمن مصالح متبادلة بعيدة عن منطق «البلطجة» الأميركية المعروفة.
ولا شك أيضاً في أن التهديدات الترامبية بتقويض الاتفاق النووي، والعودة مع إيران إلى نقطة الصفر من خلال فرض العقوبات الاقتصادية وتجديد الحصار الدولي، أو حتى التلويح بعمل عسكري، تشكل مصدر نشوة لمحمد بن سلمان، كالنشوة ذاتها، التي تجعل ذلك الرجل «الخليجي» نفسه، يصعد على الحلبة ليغدق ما في جعبته من دولارات ويوروهات وريالات ودنانير على صدر راقصة في سهرات المجون الصاخبة!
وليست مفارقة هنا، أن يتجدّد ضخ المليارات السعودية إلى الخزائن الأميركية، مع كل خطوة تصعيدية يقوم بها دونالد ترامب باتجاه إيران، ولا سيما قبل أسابيع قليلة من الموعد المفترض لإعلان قراره «النهائي» بشأن الاتفاق النووي.
وعلى هذا الأساس، لم يفوّت الرئيس الأميركي فرصة حلول محمد بن سلمان ضيفاً على البيت الأبيض ليكرّر تلك العبارة التي تطرب إليها أذنا الأمير الشاب، وهي أن «إيران لا تتعامل مع العالم بشكل مناسب. الصفقة ستظهر خلال شهر وسنرى ما سيحدث»، في إشارة إلى الإعلان الأميركي المرتقب في أيار المقبل، بشأن الاتفاق النووي.
اليمن وقطر
وكامتداد لذلك، من المؤكد أن بن سلمان يسعى إلى تكريس التوافق الأميركي–السعودي تجاه إيران، في استمرار آلة الحرب في اليمن، وهو ما حصل عليه بالفعل من خلال ضوء أخضر أميركي للاستمرار في تلك المغامرة العسكرية المدمّرة، وهو ما عكسته الشروط المتجددة التي طرحها الأمير المتهوّر لوقف العدوان، وهي «إنهاء التمرد وعودة الحكومة وإكمال الخطوات التي أفسدها الانقلابيون».
كذلك، يبدو أن بن سلمان قد حصل على ضوء أخضر أميركي آخر لاستمرار الأزمة الخليجية، بعد الضغوط التي واجهتها السعودية خلال الفترة الأخيرة لإيجاد تسوية مع قطر.
ومع ذلك، فإنه من غير المعروف بعد ما إذا كان ولي العهد السعودي مدركاً أن الرهان على تهديدات ترامب هو مقامرة سياسية بحتة، فالرئيس الأميركي، حتى الآن، لم يبدِ جدّية في تنفيذ تهديداته النارية ضد إيران، حتى أن كثيرين يشككون في أن يعمد إلى خطوة تصعيدية كبرى في أيار (مايو) المقبل، وذلك لأسباب متعددة، أبرزها الفتور الأوروبي، الذي تبدّى مؤخراً في إعلان دولي يثني على التزام الجمهورية الاسلامية بتعهداتها النووية، و«فيتو» روسي، من شأنه أن يكبح جماح أية خطوة متهوّرة ضد شريك استراتيجي قوي.
ولعلّ ما يعزز هذا الاعتقاد هو سلوكيات ترامب نفسه، فالرئيس الأميركي اختار نهجاً غير مسبوق في فتح آفاق الحوار مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون نفسه، وبالتالي فإنّه لن يكون مستغرباً إن خطا خطوة مشابهة في ما يتعلق بالملف الإيراني.
قد يبدو السلوك الترامبي المتناقض بين كوريا الشمالية وإيران غريباً بعض الشيء، ولكنّ ثمة كلمة مفتاح لحل هذا اللغز، وهو «البقرة الحلوب»، التي لم يدرّ حليبها بعد، وبالتالي فإنّ تصعيدا كلامياً متصاعداً ضد إيران، يلامس عتبة الحرب، ولا يتخطاها، قد يكون خياراً مناسباً للحصول على «مليارات إضافية»، ومكاسب أخرى في السياسة، على رأسها «صفقة القرن» لتصفية القضية الفلسطينية، والتي تتضح معالمها يوماً بعد يوم…
Leave a Reply