كانتْ مصادرُ النشرِ الثقافيّة مِنْ صُحُفٍ ومجلاّت خلالَ النصفِ الثاني من عام 1993 محدودةً، وتكادُ تقتصِرُ على أدباءِ النخبةِ التي أُطلقَتْ عليها تسمِيَة الديناصورات، وكانَ القاصّ وارد بدر السالم هو أوّلُ مَنْ أطلقَ تلك التسمِية التي غدَتْ مصطَلَحاً تهكُّمِيّاً متداوَلاً وشائعاً لكثرةِ تداولِ أسمائهم وتكرارها المُمِلّ على صفحاتِ تلك الصحف لفترةٍ تجاوزت العشرينَ عاماً بكثير. والتي عتّمَتْ على نتاجاتِ الأدباءِ الشباب من جيلِ الثمانينات إلى درجةِ التغييب.نتيجةً لهيمنةِ العقليّة الشموليّة ذات الإطر الأيديولوجيّ الضيِّق على مصادر النشر، ممّا دفعَ أغلبَ الأدباء ذوي الفكر التنويري وأصحاب الأقلامِ الحرّة إلى الهجرةِ الجماعيّةِ الأولى، وخاصّةً كوكبة ورموز أدبِ الستّينات.
وإزاءَ ذلك، كانَ الأدباءُ الشباب الممثِّلون لجيلِ الثمانينات قد خاضوا تجاربَهم الإبداعيّة في كافّةِ الأجناسِ الأدبيّة والثقافيّة وأسّسوا لأدبٍ يميِّزُهُم بعد اكتمالِ تجربتِهِم، والذي ظهرَ في غايةِ الرقِيِّ والحِرْفِيَّةِ العالية بعالَمِ الإبداع. وقد تظافرَتْ على ظهورهِ وبزوغِ فجرِهِ المُذْهل ليتصدَّرَ سماءَ المشهدِ الثقافيِّ العراقيّ بطغيانٍ كاسحٍ يحملُ معَهُ مُبَرِّراتِ صدارتِهِ ومشروعيّةَ منجَزِهِ، جملةُ عوامل تداخلّتْ ببعضِها في نسّقٍ تراتُبِيّ سواءً مع مجرى الأحداث الفجائعيّة للحروب العبثيّة والجوعِ الأسود والحصارِ المُميت، اللواتي عانوا مِنْ كوارِثِها، وتكاثفِ غيومِ الحياةِ الناتجة عن الكبتِ الجمعيّ المُبَرمَج وانعدامِ الحرّيّاتِ بجميعِ أصولِها ومتَفَرِّعاتِها.
فقد انشَدَّ الأدباءُ إلى بعضِهِم في تبادُلِ حواراتِهِم المستنِدة إلى كمٍّ معرفِيٍّ هائل، داخلَ تجمُّعِهِم المتواضع في منتدى الأدباء الشباب، أو عبرَ مجلَّتِهِم العريقة «الطليعة الأدبيّة» التي خرجَ أغلبُهُم مِنْ معطَفِها. كإمتدادٍ طبيعيٍّ للتعاطُفِ الإنسيابيّ المجتمَعِيّ الذي يمثِّلون ذروتَهُ في التآلُفِ والتعايُش دون النظرِ إلى المنطَلَقاتِ الأيديولوجيّةِ بكافّةِ أنواعِها السياسيّة والدينيّة والقوميّة… إلخ.
كما شكّلت رعايةُ النقّادِ الأفذاذ لهم في رصدِ وتَقَصّي نتاجاتِهِم بالبحثِ والنقدِ العلميّ، ألمحرِّكَ المكمِّل لظهورِ ذلك المنجزِ الأدبيّ العراقيّ المذهل، يأتي في مقدِّمتهم فاضل ثامر، حاتم الصكر، ياسين النصير، محمد الجزائري، طراد الكبيسي وآخرونَ تشهدُ لهم الساحةُ النقدِيّة العراقيّة بالريادةِ والعرفان.
إنّ الأدباءَ الشباب لم تكن أمثولاتُهُم الأدبيّةُ مقتَصِرةً على متصدِّري المشهد الثقافي إبّان المراحلِ الأولى لنشأتِهِم الأدبيّة، بل وضعوا نصبَ أعينِهِم مختلفَ التجاربِ العربيّةِ والعالميّة الإنسانيّة في إنضاجِ تجاربِهِم، وإنَّ المطافَ الحاسم في تشكيلِ ظاهرتِهِم الثقافيّة، كانَ يعودُ لتمَسُّكِهِم غيرِ المحدود بإنجازاتِ أدباءِ جيلِ الستّينات الذين تلاقفتْهُم المنافي، وفيافي الإغتراب التي اتّسَعَتْ رقعتُها لتشمل توزيعَها أغلبُ خارطةِ الأرض وفي جميعِ أنحاءِ العالم تشريقاً وتغريباً. مرّةً أذهلَني صديقي الشاعر الحنون ستّار موزان بترديدِ قصيدة الشاعرِ الستّيني الرائد فوزي كريم، التي أهداها لصديقِهِ الشاعر الراحل والرائد أيضاً حسين مردان، ورغم كونِها قصيدة حداثيّة يصعبُ حفظُها لكنّهُ كانَ يلقيها على مسمعي بطلاقةٍ وعن ظهرِ قلب. وربّما كانَ لجيلِ الستّينات التأثيرَ الواضح في استكمال الهجرةِ الجماعيّة الثانية التي عصفتْ بأدباءِ جيلِ الثمانينات، فتناثروا هم الآخَرون على أقطارِ الأرض. فيما بقي رغم ذلك الكثيرُ من أقران جيلِهِم صامدين في مواصلةِ الحياة كما الإبداع داخل زنزانةِ الوطن.
لقد تمثّلَتْ مصادرُ النشرِ المحدودة في الصفحاتِ الثقافيّة لكلٍّ من جريدةِ الجمهوريّة الناطقة برسميّة الدولة، وجريدة الثورة الناطقة بلسانِ الحزبِ القائد، وجريدة القادسيّة الناطقة بلسانِ القوَاتِ المسلّحة، وجريدة العراق الناطقة بلسانِ الحكمِ الذاتي للكرد، وجريدة بابل الصادرة بالتفويض الشعبي الموهوم. أمّا المجلاّت الثقافيّة فكانت أشهرها «الأقلام»، والصفحة الثقافيّة في كلٍّ من المجلّتين المنوّعتين «ألف باء» الأسبوعيّة و«الشباب» الشهريّة. وكانت جميعُها خاضِعةً للوصاية من قبَلِ حُرّاسِ الفكرِ الشموليّ سيّء الصيت. والتي رسَتْ نهائيّاً على قاسِمِها المشتَرَك في كونِها بوقاً واحداً يعزفُ على نغمةِ تمجيدِ النظامِ الديكتاتوريّ القمعيّ وعلى رأسِهِ رأسُ النظام. وكانت تشكِّلُ امتِداداً للمبدأ التعَسُّفيّ الشهير «مركزِيّة الإعلام» الذي كلكلَ بظلالِهِ السود على الثقافةِ العراقيّة منذ بُعَيْدَ منتصَفِ العام 1968عام الإنقلابِ المشبوه في السابع عشر من تمّوزِهِ المُريب الذي ضمَّنَهُ الشاعرُ الكبير رشدي العامل عندما وصَفَ الفرحَ في أحدِ أعمدتهِ اليوميّة «مدينتي» في جريدة «التآخي» أيّامَ بداياتِ ذلك الإنقلابِ المُشين: (كالقمر..الذي غابَ ليلةَ السابع عشر).
البقية في العدد القادم..
Leave a Reply