حينّ أطْلَعْتُ صديقي الشاعر محمد تركي النصّار على قصائدِ المتَأمِّل بينَ العيْنِ والنهر والتي منحْتُها عنوان (قصائد إلى أوكتافيو باث) إقتَرَحَ عليَّ تغييرَ العنوانِ الأخير إلى الأوّل، وقدْ سُرَّ بها أيّما سرور. وأثناء سفرتي إلى مزرعةِ الغالبيّة كانَ النصّار قدْ عرضّ تلك القصائد على الشاعر عبدالزهرة زكي وكانَ مشرِفاً على الصفحة الثقافيّة لجريدةِ الجمهوريّة -والذي أصبحَ من أعزِّ أصدقائي فيما بعد- فنالتْ إعجابَهُ واستحسانَهُ هو الآخر، ممّا حدا بهِ إلى الإجتماع بصديقي الشاعر حسين حسن مُحاوِراً إيّاه حولَ تفاصيل كتابة تلك القصائد، وكما أخبَرَني بأنَّ الشاعر عبدالزهرة زكي قد استفسَرَ منهُ فيما إذا كانَ هوَ كاتِبَها، فأجابَهُ: كيفَ يمكِنُ أنْ يحصَلَ ذلك؟ إنّني -والحديث للشاعر حسين- لسْتُ ممّنْ يرتضي لنفسِهِ أرتكابَ مثل هذا الفعلِ المُشين، كما أنّ العبدلي هو الآخر لا يرتضي الوقوع بمثل هذه المثالبِ المُخزِية والتي تتنافى مع أخلاقِيّة الشِعريّة، وتتعارض تماماً مع الصدق، ذلك الشرط الأساسيّ في قيمومةِ الأدب وكينونةِ الشاعر.
وبعدَ أنْ تحقّقَ الشاعر عبدالزهرة زكي من عائديّة تلك القصائد إلَيّ، قامَ بنشْرِها في الصفحةِ الثقافيّة لجريدة الجمهوريّة بعددِها الصادر بتأريخ 30-8-1994، وقد استَهلَّها بمُقّدّمة رائعة حملّتْ عنواناً بارزاً (مقدّمة وعشرة نصوص) حيثُ اختارَها هوَ من بين الخمسة عشر نصّاً، كما حملَت النصوص عنوانَ أحدِها وهو «المتأمِّلُ بينَ العينِ والنهر».
أتذكّرُ أنّهُ في متنِ مقدِّمتِهِ أشارَ إلى ضرورة نسيان كلّ مانُشِرَ لي من القصائد العمودِيّة، كما نصحَني فيها بالعدول عن كتابتِها، وقد فعَلْتُ.. باستثناء أربع قصائد سأتناولُ حيثِيّاتها حالَ انبلاج دورِها الزمنيّ لاحِقاً. ولمْ أقِفْ عند هذا الحدِّ بلْ تعدّى ذلك إلى إطعامي لماتبقّى من مخطوطةِ ديوان «رياح النشوز» إلى أحشاءِ النار.
لقد أحدثَتْ تلك النصوص -المتأمِّل بين العينِ والنهر- ضجَّةً في الوسطِ الأدبي إبّانَ تلكَ الأيّام، فكتّبَ الشاعر الشهير خالد مطلك عنها في الصفحة الثقافيّة لجريدةِ القادسيّة مقالاً نقديّاُ بعنوان «كمال العبدلي.. الشاعر الذي يكسِرُ المصباحَ بحثاً عن الضوء»، كما كتبَ القاص المبدع محمد سعدون السباهي -الذي أصبحَ هوَ أيضاً فيما بعد من جملةِ أصدقائي الشخصِيّين- عنها مقالاً نقدِيَاً إنطِباعِيّاً بعنوان «قصائد مليئة بالشِعر»، وذلك في الصفحة الثقافيّة لجريدة الجمهوريّة. وقد تساءلْتُ في حينِها عن المبرِّرات التي أحدثَتْ تلك الضجّة فأفصّحَ لي صديقي الشاعر نصيف الناصري بأنَّ تلك النصوص قد اختَرَقت الوسطَ الأدبيّ.
وبعدَ تتابعِ الأيّام أصبحتْ تلك النصوص رسولاً بيني وبين العديد من الشعراء والقاصّين العراقيّين اللامعين، قالَ لي الشاعر الراحل العزيز رياض إبراهيم بعد انعِقادِ أواصِرِ الصداقة بيننا بأنّ العنوان ينطوي على قلقٍ محسوس، كما كانتْ سبباً في تواصلِ صداقةٍ حميميّةٍ مع الشاعرِ الراحل الفذَ رعد عبدالقادر بعدَ أنْ أطرى ملِيّاً عليها، أمّا الشاعر الفيلسوف خضيّر ميري الذي أصبحَ أيضاً من جملةِ أصدقائي المقرّبين الحميمين فأشار عليَّ بأنّها من قصائدِ الومضة. وهو نفس الإنطِباع الذي أفصَحَ لي بهِ صديقي الشاعر حسن النوّاب والذي سارعَ إلى نشْرِ ثلاث قصائد جديدة كنتُ قد كتَبْتُها في حينِهِ وذلك في الصفحة الثقافيّة لجريدة العراق التي كان يعمل في تحريرِها. أتذكّرُ أنّ إحداها تنتهي بعبارة «عِلّتي أنّني أسكُنُ الحيَوان». ثمّ تتابعَتْ مواصلَتي على كتابةِ قصائدِ الحداثةِ، فنشرَ صديقي الشاعر منذر عبدالحر عدّةَ نصوصٍ منها في الصفحة الثقافيّة لجريدةِ القادسيّة التي كانَ يشرِفُ على تحريرِها. فيما سجّلَ لي القاص علي السوداني قبلَ هذا في إشارةٍ إلى قصائد رياحِ النشوز معقّباً إيّاها بَعد هذا في إشارةٍ إلى قصائد المتأمِّل.
لقد نالتْ تلك النصوص رضا وإعجاب الوسطِ الأدبي على العموم باستثناء واحدٍ أهلكَتهُ الغيرةُ وأعماهُ الحسد، وهما الآفتان اللّتان تحولان بين صفةِ الشعرِيّة وبين الكائنِ البشري، وكانَ يُرَدِّدُ كالمجنون:
– خمسة عشر عاماً مضتْ على كِتابتي ونشري للشِعر ولمْ يكتُبْ أحدٌ عنّي، بينما لمْ يمضِ على العبدليّ سوى شهور فنالَ كتابةَ العديدين.
ولم يكتفِ بسحبِ نصوصي من على البياض في الصفحة الثقافيّة لمجلّةِ ألف باء التي كانَ يشرفُ على تحريرِها صديقي الشاعر أمين جياد في غيابِهِ ولثلاث مرّات وهو تصرُّفٌ يُخْضِعُ مرتكِبَه إلى خيانةِ التقاليدِ الأدبيّة. بلْ تعدّى ذلك إلى انتقاء صفاتٍ لصيقةٍ بهِ ليلْحِقَها بكاتبِ هذه السطور، والتي نحتفظ بأدلتها القاطعة غير الخافية عن الطبقة العريضة للوسط الأدبي العراقي.
وعلى الرغمِ من أنّني لا أميلُ إلى التدنّي لحضيضِ المهاترات أوالخوضِ في أيِّ جدلٍ طوباويّ، لكنّي فقط أتوقّفُ عند خطِّ الإيفاء بحقِّ الرد
البقية في العدد القادم..
Leave a Reply