الخلاف الذي نشب على تضمين البيان الوزاري للحكومة عبارة المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، ليس جديداً أو طارئاً، وإن كانت حكومات سابقة تبنّت صيغة «الجيش والشعب والمقاومة»، ويعود السبب بذلك الى أن إنتماء أطراف سياسية وتيارات حزبية الى مدارس فكرية وسياسية وارتباطات خارجية، لا تعترف بضرورة المقاومة و تسليح الجيش، أو بأن تكون للبنان قوة عسكرية سواء كانت المقاومة أو الجيش تقف بوجه العدو الإسرائيلي أو تردعه عن اعتداءاته، في وقت توجد قوى وأحزاب تدعو الى مقاومة الإحتلال الإسرائيلي، وتكوين قوة للبنان تمنع إسرائيل من شن أي عدوان عليه.
تمام سلام |
ويعود هذا الخلاف الوطني الى مرحلة نشوء الكيان الصهيوني، إذ سعت أكثرية الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، الى طرح نظرية تحييد لبنان، وأن قوته في ضعفه، وتحميه صداقاته الدولية، والعلاقات الدبلوماسية، وهذا الطرح أدّى الى إنقسام اللبنانيين فيما بينهم، وحصول أزمات وحروب أهلية داخلية، كان من أعنفها وأطولها مدة، تلك التي دامت نحو 15 عاماً، كان من أسبابها الرئيسية هو الخلاف حول مقاومة العدو الاسرائيلي مع ظهور المقاومة الفلسطينية بعد نكسة 5 حزيران 1967، وما إذا كان لبنان يتحمل وجودها المسلح، وإنطلاق عملياتها من حدوده الجنوبية ومن على أرضه، وقد إنعكس هذا الخلاف على الوضع السياسي الداخلي، كما على الحالة الأمنية حيث وقعت اشتباكات بين الجيش والمقاومة الفلسطينية، وبين الأخيرة وحزب الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار، الى أن صدر إتفاق القاهرة في العام 1969 الذي نظّم الوجود الفلسطيني المسلح، واقتطع أرضاً في منطقة العرقوب المحاذية لفلسطين المحتلة في شبعا وكفرشوبا وكفرحمام وراشيا الفخار لتكون قواعد للفدائيين الفلسطينيين بإتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد أن خرجت تظاهرات في العالم العربي تطالب بفتح الجبهات والحدود القريبة من فلسطين أمام الفلسطينيين لممارسة الكفاح المسلح، فكان للبنان دوره، وهو الذي يحتضن حوالي 250 ألف نازح فلسطيني في مخيمات أكثرها وأكبرها موجود في الجنوب وعند تخوم فلسطين المحتلة.
فموضوع مقاومة إسرائيل هو الخلاف، وليس سلاح «حزب الله»، كما يجري تصويره، ولأن المقاومة لا تدخل في فكر ونهج وسياسة قوى لبنانية، فحزب الكتائب كان رأس حربة بمواجهة المقاومة الفلسطينية بذريعة محاربة التوطين، وهو شعار مفتعل لأن مَن يريده هو العدو الإسرائيلي وليس الفلسطينيون الذين مازالوا يرفضونه، وحملوا السلاح وتحولوا الى مقاومين، لأنهم يريدون العودة الى فلسطين التي هي حق لهم كفلها القرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة، وبدلاً من أن تكون المقاومة للتوطين بمواجهة العدو الإسرائيلي الذي كان السبب في تشريد الفلسطينيين، لجأ فريق لبناني الى رفع السلاح بوجه الوجود الفلسطيني الذي تحوّل الى مقاومة وينفّذ عمليات ضد الكيان الصهيوني.
وعندما خرج الفلسطينيون وبنادقهم من لبنان، إثر الغزو الصهيوني له في العام 1982 وظهور المقاومة الوطنية اللبنانية، وبدء عملياتها ضد الإحتلال الإسرائيلي، كان قسم من اللبنانيين مع هذا الإحتلال الذي أتى بحليفه بشير الجميّل لرئاسة الجمهورية، ليقيم معه معاهدة سلام، لكن المقاومة إغتالته قبل تسلمه سلطاته ليخلفه شقيقه أمين ويذهب لتوقيع إتفاق 17 أيار مع إسرائيل، إلا أن المقاومة منعته وأسقطت الإتفاق وأنهت إفرازات الإحتلال وأعادت التوازن الى الوضع الداخلي، ثم لتهزم المشروع الإسرائيلي بكامله، وتحرر الأرض شبراً شبراً، الى أن كان التحرير في العام 2000 دون قيد أو شرط، مع بقاء سلاح المقاومة حاضراً ليحرر ما تبقى من أرض محتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي لمدينة الغجر، وكي يكون هذا السلاح الذي أثبت كفاءته في الميدان وأنجز بالمقاومة والتحرير، قوة إضافية للبنان الى جانب الجيش والشعب، لردع أي عدوان إسرائيلي، حيث انتزعت المقاومة شرعيتها، بسبب صمودها وإنجازاتها، ولم تكن منّة من أحد، وكانت أطراف سياسية وفي أحلك الظروف التي كانت المقاومة تخوض معاركها بوجه العدو الإسرائيلي، فإنها كانت في الداخل اللبناني تواجه مَن يدعوها الى رمي سلاحها، والتخلي عن عملياتها، وحصل هذا في العام 1993 وأثناء عدوان تموز، عندما شنّ الكيان الصهيوني عملية «تصفية الحساب» ضد المقاومة، وكان جزء كبير من أرضه في الجنوب محتلاً، فخرج مَن في الحكومة برئاسة رفيق الحريري، ليطالب بإرسال الجيش الى الجنوب ونزع سلاح المقاومة، كما نزع سلاح الميليشيات، وأن المنطقة قادمة على سلام مع الكيان الصهيوني بعد إنعقاد مؤتمر مدريد، ولا حاجة أن تبقى فيه مقاومة، وهذا يضر بمشروع الإعمار الذي بدأه الحريري الذي كان يروّج ويدعو لتحضير لبنان للسلام القادم الى المنطقة، وإن أولى بوادره إتفاق أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل التي لم تلتزم به، بل ألهت الفلسطينيين فيه وزجّتهم في صراع حوله، وتأثر لبنان به، لجهة تقوية خط السلام بمواجهة نهج المقاومة، وكان من نتائجه المجزرة التي ارتكبت بحق المقاومين الذين تظاهروا عند جسر المطار في منطقة الغبيري، فصدرت الأوامر من الحكومة برئاسة الحريري الى الجيش لتفريق المتظاهرين، فسقط 13 شهيداً وعشرات الجرحى في أيلول من العام 1993، وكان القصد زج الجيش بمواجهة المقاومة التي استدركت الأمر، وعضت على الجراح، ولم تقع في الفخ الذي كان منصوباً لها وللجيش قبل شهرين، بعد العدوان الإسرائيلي الذي تكرر في نيسان 1996 تحت إسم «عناقيد الغضب»، والهدف هو المقاومة التي كانت في أوج عملها العسكري وتطوره واستخدام الصواريخ ضد المستوطنات الصهيونية عند تعرض المدن والبلدات اللبنانية للعدوان، فجاء إتفاق نيسان الذي رعته الأمم المتحدة لوقف العدوان، ليكرس شرعية المقاومة كحق مشروع في الدفاع عن الأرض وتحريرها، ومنذ ذلك العام توقف الحديث عن المقاومة ودورها، مع الإنتصارات التي تحققت، وبات ورودها في البيانات الوزارية لازمة كقوة دفاع عن لبنان والوحيدة بالتنسيق مع الجيش الذي كان قائده العماد إميل لحود متعاوناً مع المقاومة ومنسقاً معها، ورافضاً التورط في أي صدام ضدها، كان مسؤولون لبنانيون يعملون لحصوله ولم يقع، وهو ما سهّل للمقاومة عملياتها ونشاطها في بيئة شعبية حاضنة لها، وغطاء وطني لبناني ودعم سوري كامل، فتحقق التحرير للشريط الحدودي المحتل بعد ربع قرن على إنشائه كجيب عميل لإسرائيل، أرادته نموذجاً تدخل منه لتطبيع العلاقات مع لبنان، لكن إنهياره أعطى اللبنانيين القوة والإرادة، بأن الكيان الصهيوني لم يعد هذه الدولة التي تخيف ما حولها، وجيشه ليس الذي لا يقهر، وعلى هذه الأسباب، كان تمسك المقاومة بالسلاح، في وقت خرج مَن يطالبها بعد إنجاز التحرير أن تسلم السلاح وتتحول الى حزب سياسي، وأن تختار كما أعلن النائب وليد جنبلاط بين «هانوي أو هونكونغ»، فكان رد المقاومة أنها مستمرة كقوة للبنان، التي صدرت أصوات من قوى سياسية برفض ذلك، وبدأت حملة على المقاومة وسلاحها.
ولما وقع العدوان الصهيوني في 12 تموز 2006، خرج مَن يحمّل المقاومة أسبابه، لأنها اختطفت جنديين إسرائيليين، وعندما صمدت بوجهه مدة 33 يوماً، وانهزم الجيش الإسرائيلي، قام وزراء في الحكومة التي يرأسها فؤاد السنيورة بمطالبة المقاومة بتسليم سلاحها، كما بإستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع، تقوم فيه القوات الدولية بنزع سلاح المقاومة وتدمير ترسانتها الصاروخية ، وهو استكمال لما عجز عنه العدو الإسرائيلي، ولم يتمكّن فريق «14 آذار» من تنفيذه في الوعد الذي تعهده لأميركا أنه مع خروج القوات السورية من لبنان، فهو يتكفّل بأن يفرض على «حزب الله» تسليم سلاحه، إما بالحوار أو بالقوة، ولم يتمكّن في الحالتين، لا في العدوان الإسرائيلي، ولا في قرار مجلس الوزراء في 5 أيار 2008، بتفكيك شبكة إتصالات المقاومة، وهو سلاحها الذي من دونه تصبح عمياء، مما اضطرها الى أن تنفّذ عملية عسكرية وأمنية في بيروت في 7 أيار، فرضت على الحكومة برئاسة السنيورة أن تعود عن قرارها وتفرض حلاً سياسياً للأزمة التي نشأت بعد العدوان الإسرائيلي صيف 2006، وأعادت التوازن الى الساحة الداخلية.
والسجال دائر حول المقاومة وسلاحها، وشطبها من المعادلة الوطنية والدفاعية، كما جاء في خطاب رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ودعوته للخروج من اللغة الخشبية، أي من تلك الثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» الى ثلاثية أسماها «ذهبية» وهي ما أثارت رد فعل من «حزب الله» وحلفائه من هذا الموقف الذي لم يعطِ تفسيراً له، سوى أنه يقدّم أوراق اعتماد لمحور خارجي ضد المقاومة، تعطيه إجازة عبور الى التمديد الذي يعلن أنه يرفضه، أو الى تشكيل حالة سياسية تتماهى مع «14 آذار» التي اعتبرت مواقفه متقدمة عليها في رفض وجود المقاومة، وضرورة العبور الى الدولة، وهذا ما عقد صياغة سريعة لبيان وزاري، عدم وجود المقاومة فيه، وهدّد بإنفراط الحكومة التي وُلدت ولادة قيصرية بعد عشرة أشهر على تكليف رئيسها، والتي تصبح في حكم الساقطة أو المستقيلة، إذا لم يتم خلال 30 يوماً الوصول الى بيان وزاري، وهذا ما فتح الباب لإجتهادات دستورية حول تفسير الفقرة الثانية من المادة 64 من الدستور.
Leave a Reply