… وأخيراً فعلها دونالد ترامب و«قضم الرصاصة»، كما يقول المَثَل الأميركي، وأفرج عن قرار إتخذه الكونغرس عام 1995 بالاعتراف بالقدس المحتلَّة عاصمة أبدية للكيان الإسرائيلي ونقل سفارة الولايات المتَّحدة إليها من تل أبيب. قرار ترامب هذا لم يكن مفاجئاً رغم إدِّعاء أنظمة العرب الخائنة بذلك، فرئيس تلفزيون الواقع وعد بذلك خلال حملته الانتخابية وكان هذا القرار تحصيل حاصل ولم يبق إلا توقيت الإعلان عنه في اللحظة المناسبة التي يمكن لترامب أنَّ يستفيد منه بعد فشله في وعوده الانتخابية الأخرى، ففش خلقه مرَّةً واحدة بوعد يرضي به قاعدته واللوبي الإسرائيلي وصهره جاريد كوشنر.
وقد قيل لنا أنَّ ترامب قبل خطابه عن القدس، اتصل ببعض «زعماء» العرب ليطلعهم على قراره المشين الأخرق. لكن هذا غير صحيح، ترامب لم يتصل بالعرب ليبلغهم قراره ويستمع اليهم فـ«الماستر» لا يُطلع خدمه على خططه، بل لكي يستعرض مع هؤلاء الخونة الأتباع كيفية لجم ردود الفعل إن حصلت والإنتظام في صف التهنئة «لإسرائيل». والدليل هو بيان رئيس السلطة الفلسطينية «الخالص كازه» من زمان، محمود عباس، الذي وكأنه صادر عن دولة سويسرا!
فعباس الذي أرجأ خطابه «التاريخي» لانتهاء ترامب من كلمته وكان أول من اتصل به هو ملك الأردن عبدالله، دبَّج كلاماً إنشائياً كاذباً ومرفوضاً لأنَّه غارق في السمسرات والصفقات إلى أذنيه على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته، فلم يكن خطابه بمستوى الحدث ولا يساوي «قرشاً مصدياً». فعباس تحاشى اتخاذ قرارات مصيرية مثل وقف التنسيق الأمني فوق الطاولة وتحتها مع العدو وتعديل ميثاق منظمة التحرير ووقف منع الكفاح المسلح وسحب الاعتراف بوجود إسرائيل التي منحها حتَّى حق احتلال قريته. ومحمود عبَّاس هذا لم يتفوَّه بحرف حول استدعائه للسعودية وطلب بن سلمان منه وقف الوحدة مع «حماس» والموافقة على الشروط التي وضعها كوشنر في زيارته السرية للرياض لتصفية قضية فلسطين نهائياً حتَّى يتفرغ إبن سلمان وحليفه نتنياهو لمحاربة إيران. في الحقيقة، عبَّاس هو أحد المتآمرين ضد القضية وسينزع قناعه سريعاً مع أنظمة العار لكي يظهروا وجوههم البشعة الحقيقية، فما قبل قرار الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل هو ليس كما بعده وكل الأوراق كُشفَت اليوم وورقة التين التي كانت تستر عورة الانحياز الأميركي قد أُزيلت وانزاحت معها حجة أنظمة العار بضرورة التفاوض والإعتراف والدبلوماسية التي اختطها السيِّء الذكر أنور السادات والتي تعتبر أن 99 بالمئة من أوراق الحل هي في يد أميركا.
عنصر المفاجأة في قرار ترامب هو أضحوكة. لقد مهد ترامب لخطوته الرعناء عبر شراء الرعب السعودي من إيران ومحور المقاومة بعد إخفاق بني سعود في سوريا والعراق ولبنان والبحرين واليمن، فسايرهم بعد احتقارهم ورقص بالسيف معهم وجردهم من ثروة الأمة وقرَّبهم من إسرائيل، التي لم تكن صدفة أنها كانت محطته الثانية بعد الرياض، عبر خط طيران مباشر، لكي يشارك نتنياهو الغنيمة والفوز والضحك على غباء الحكَّام العرب الذين جمعوا له رؤساءهم وملوكهم وهم قلما تجمعوا لأمر جلل كقضية القدس والأقصى. كذلك مهد له بابتزاز وتهديد منظمة التحرير بإغلاق مكتبها في واشنطن ووقف المساعدة المالية عنها إذا استمرت في دفع الرواتب لأسر الشهداء والأسرى.
في شهر أيَّار الماضي، بعد زيارة ترامب لمملكة القهر لم يكن التوقيت مناسباً لكي يعلن اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، لكن الوضع مختلف اليوم والمحقق المستقل موللر يقترب من دائرة ترامب الضيقة ويكاد يكشف خيوط التنسيق بينهم مع الروس والخناق يضيق على رقبته، لذا فهو بحاجة لصرف الأنظار بعد أنَّ فشلت «فتيشة» كوريا الشمالية، تماماً كما فعل عندما أطلق صواريخ «توماهوك» على دمشق بحجَّة أطفال سوريا فتحول الإعلام من منتقد له باحتقار إلى معجب به وبجمال الصواريخ المدمِّرة! كذلك نتنياهو الذي يقترب من زجه في السجن هو بحاجة إلى حدث مفصلي كهذا.
لكن هذه المرَّة عملية التعمية لن تفلح بسبب الرد من قبل محور المقاومة فقط، لا الأنظمة العميلة المتخاذلة ولا الجامعة العربية ولا حتَّى المجتمع الأوروبي الضعيف الهش، وخصوصاً البريطاني التابع، وحتماً ليس من قبل السلطة العباسية المتواطئة.
الحليف السعودي والخليجي بدوره لم يتخلف عن التمهيد لإنهاء القضية الفلسطينية. فمنذ حوالي الشهر فاضت السوشال ميديا ببوستات لما يُسمَّى بإعلاميين سعوديين وهم يهينون فلسطين وشعبها ويروجون للتطبيع الشامل مع إسرائيل لدرجة أنَّ أحد الموتورين الكويتيين نفى أساساً وجود دولة إسمها فلسطين. كل ذلك من أجل خلق استعداد نفسي للتحالف مع العدو، كما كان يدَّعي السادات ويزعم برفع الحاجز النفسي بين العرب وإسرائيل!
لم تمض عدة أيام على مئوية وعد بلفور المشؤوم عام 1917، حتَّى جاء وعد ترامب عام 2017، ولكن بالرغم من قتامة الحدث وخطورته إلا ان رُبَّ ضارةٍ نافعة وإن خفت من أمر فالأفضل أنَّ تقع فيه ومن «حسنات» ترامب أنَّه ليس سياسياً مداهناً محابياً بل على عينك الوقحة البشعة يا تاجر وقد أماط اللثام عن الإنحياز الكامل لأميركا تجاه ربيبتها في المنطقة. وإذا كان هدف ترامب مكافأة العدو ومنحه التفويض التام لتهويد القدس وزيادة المستوطنات فيها وهدم الأقصى الشريف، إلا أنَّه فتح عليه أبواباً مغلقة من حيث لا يدري وسيعيد الألق إلى القضية الفلسطينية في أذهان الشعب العربي على الأقل وكلَّما عادت قضية فلسطين إلى مركزيتها كلما انهزم طرداً مخطَّط بني سعود وأذيالهم وأسيادهم. إن صدمة توقيت قرار ترامب سوف تعيد قضية فلسطين إلى الواجهة وستقوم بفرز كبير وواضح فإما الاستسلام الكامل وإما المقاومة الشاملة فلا منطقة رمادية بعد اليوم. وبعد منح القدس لإسرائيل لم تعد المقاومة حركة طارئة مؤقتة بل من صلب العمل على التحرير ولن يصبح سلاح المقاومة، التي تعرف كيف تقاتل وتنتصر، موضوع نقاش بعد الآن بما ان الأنظمة العربية عاجزة وعميلة. رحم الله جبهة الرفض لقد كانت محقة عندما أعلنت أنَّ تحرير فلسطين لا يتم إلا على جثث الأنظمة العربية.
ترامب الذي اطمأن إلى خطوته لم يكترث لاشتعال المنطقة والعالم بسبب تهوره ربَّما لانه يعرف حجم عبيده من الحكَّام العرب، حتى أنَّ الناطقة باسم بيته الأبيض كانت مهتمة في اليوم التالي بموضوع استقالة السناتور آل فرانكلين بسبب مزاعم عن تحرشه الجنسي. إلا أنَّه كما لم يتمكن وعد بلفور من إلغاء فلسطين وشعبها، لن يمنع قرار ترامب الأخرق عروبة القدس وحقيقة أنها ستكون وستبقى عاصمة دولة فلسطين الكبرى إلى الأبد والتاريخ شاهدٌ بيننا.
Leave a Reply