حين دخل الرئيس الأميركي باراك أوباما البيت البيض لأول مرة، أعلن أن زيارته الأولى خارج الولايات المتحدة ستكون لعاصمة اسلامية، لم يحددها وترك الباب مفتوحاً للتنبؤات والتهكنات، حينها تنبأ البعض أن تكون تلك العاصمة هي القاهرة أو طهران أو الرياض، ليفاجئ أوباما الجميع الأسبوع الماضي ويزور العاصمة التركية أنقرة، أجرى فيها محادثات سياسية وعرج تالياً على عاصمة العثمانيين اسطنبول التقى فيها الرئيس عبدالله غول، وألقى خطاباً جاء فيه أن الولايات المتحدة لم ولن تحارب المسلمين، مذكراً الإيرانيين بضرورة التخلي عن أحلامهم بامتلاك أسلحة نووية، ومنبها وزير الخارجية الإسرائيلي ليبرمان هذا الصهيوني المتشدد القادم من روسيا، بأن الفلسطينيين لهم الحق بإقامة دولة خاصة بهم، مثلهم في ذلك مثل الإسرائيليين المتجمعين في الأراضي المقدسة من أرجاء الدنيا.
أما لماذا اختار أوباما أنقرة لتكون وجهته الأولى، فلأن الولايات المتحدة معجبة بالاسلام على الطريقة التركية، فهذه الدولة جل سكانها مسلمون سنة، والحزب الحاكم فيها إسلامي، لكن نظامه في ممارسة الحكم علماني، لا يوفر ملاذات للإرهابيين ولا يقطع يد سارق ولا يرجم زانياً، ولا يسعى لامتلاك أسلحة نووية، ولا يهدد الدولة العبرية، ولا يأوي منظمات على اللائحة السوداء الأميركية، ولا يبطش بالمعارضين ولا ينفذ جرائم إنسانية بحق شعبه.
تلك هي المنظومة التي يدعي الأميركيون أنهم يؤمنون بها، وهي على أية حال في نظرهم لا تلبيها أنظمة حكم عربية ولا إسلامية باستثناء تركيا، لذا أصبح المطلوب أميركياً وإسرائيلياً تعميم التجربة التركية وتسويقها في أرجاء العالمين العربي والإسلامي، ومن أجل ذلك حاولت أنقرة في المرحلة الأخيرة اقتناص الفرصة للعب دور مؤثر في الحرب على غزة، كادت تركيا في تلك الحرب أن تشطب الدور المصري نهائياً من معادلة الصراع في الشرق الوسط، لولا تكتل مجموعة من الأنظمة العربية إلى جانبها أبقت عليها داخل الصورة. نذكر في تلك الحرب خرجت في أنقرة أضخم مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين، ووقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في أحد المحافل الدولية غاضباً على ما تقوم به آلة الحرب الاسرائيلية من تنكيل بالشعب الفلسطيني وقام بتوبيخ الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، فيما كانت مصر تمنع دخول المساعدات إلى غزة ووقف جيشها على الحدود لمنع دخول الفلسطينيين الى أراضيها في حال فكروا في الهرب من جحيم القصف والمعارك الضارية.
ثم أن تركيا تربطها علاقات جيدة مع سوريا، لذا كان لها دور في التوسط لإقامة سلام بينها وبين إسرائيل، على اساس الانسحاب الكامل من الجولان، لولا تلك الحرب، التي أوقف السوريون على أثرها مفاوضاتهم غير المباشرة مع دولة الاحتلال، مع العلم أن لتركيا علاقات وطيدة مع إسرائيل تؤهلها للعب دور الوسيط.
دور تركيا الإقليمي غير مقتصر على أزمة الشرق الأوسط، فهي ذات نفوذ مباشر في الشمال العراقي، وغير مباشر في كل من إيران وأفغانستان، وهي دول تعني الكثير في السياسة الأميركية الخارجية، فالولايات المتحدة تعيد نشر قواتها استعداداً للانسحاب من العراق وستكون تركيا هي بوابة ذلك الانسحاب، وهي ستساهم في الحرب الدائرة في أفغانستان عبر إرسال قوات حفظ سلام تركية “مسلمة” الى أراض إسلامية، وهي مؤهلة للتوسط مع القيادة الإيرانية لوقف البرنامج النووي في مقابل التصالح مع أميركا.
لكن ما الذي جعل تركيا تقفز الى هذا المقام؟ فتلك مسألة تختلط فيها الجغرافية والتاريخ والثقافة والسياسة، وهذه جميعها تتجسد في اسطنبول التي كانت المحطة الثانية في زيارة أوباما، فهذه المدينة التي يقطنها١٢ مليوناً والمرشحة أن تكون عاصمة الثقافة الأوروبية للعام ٢٠١٠، نصفها في قارة آسيا ونصفها الآخر في أوروبا، وهي ذات أمجاد خالدة في التاريخ، كانت عاصمة لعدة امبروطوريات متلاحقة: الرومانية والبيزنطية واللاتينية والعثمانية، وقد اختارها الرئيس التركي لتكون مسرحاً للقاء أعظم امبروطورية في التاريخ (الإمبراطورية الأميركية) ليسجل منها نصراً دبلوماسياً وسياسياً سنشهد آثاره في القادم من الأيام، أقله قبول تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي، مع ما يعني ذلك من رخاء اقتصادي، في حين أنها منضمة أصلاً لحلف شمال الأطلسي (ناتو) بذلك تحقق لشعبها قوة اقتصادية وعسكرية وثقافية وسياسية في آن معاً، بينما ينتظر العرب مزيداً من الانشقاقات والتراجع والاندحار.
Leave a Reply