كمال ذبيان – «صدى الوطن»
بعد وقوع الانفجار الكارثي في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت يوم 4 آب (أغسطس) الماضي، اتخذت الحكومة برئاسة حسان دياب، قراراً بإعلان حالة الاستنفار العام، وأحالت القضية إلى المجلس العدلي، متعهدة بالكشف عن ظروف التفجير وأسبابه، لكن المفاجأة كانت بعد أيام معدودة باستقالة الحكومة التي انتقلت إلى تصريف الأعمال، أما محاسبة المسؤولين عن الزلزال الذي ضرب العاصمة بيروت وأتى على نصف أحيائها، فظلت قيد مجهول وإن جرى توقيف موظفين من الفئة الأولى وما دون، إضافة إلى ضباط من الأمن العام والجمارك، بتهمة الإهمال الوظيفي الذي أدّى إلى انفجار نحو 2,700 طن من مادة «نيترات الأمونيوم».
وقد تبين أن الأطنان المتفجرة وصلت إلى لبنان على متن سفينة «روسوس» التي تعطلت في طريقها إلى الموزمبيق عام 2013 وتم احتجازها مع قبطانها لعدة أشهر. ومنذ ذلك الحين ظلت «نيترات الأمونيوم» مخزنة في العنبر 12 وسط إهمال واضح من أجهزة الدولة المختصة، والتي تبدت في المراسلات العقيمة بين المسؤولين دون أن يحرك أحدهم ساكناً لمعالجة هذا الخطر الكبير الذي انفجر باللبنانيين مخلفاً حصيلة مؤلمة بمقتل نحو 200 شخص وإصابة نحو ستة آلاف آخرين، فضلاً عن الدمار الهائل الذي لحق بآلاف الوحدات السكنية والمتاجر والسيارات والبنى التحتية. وحتى اليوم لم تبدأ إعادة الإعمار في الأحياء الأكثر تضرراً مثل مارمخايل والجميزة والأشرفية وغيرها، لأنه لا يوجد تمويل، لا من الحكومة اللبنانية، ولا من المساعدات الخارجية، التي لم تتجاوز 250 مليون دولار تم تخصيصها في مؤتمر دولي عُقد في باريس لتمويل جهود الإغاثة والحاجات الإنسانية وترميم المدارس والمستشفيات إلخ…
من أين بدأ القضاء
مع تعيين القاضي فادي صوّان محققاً عدلياً في جريمة العصر بحق الشعب اللبناني، بدأ استجواب الموظفين المباشرين عن مرفأ بيروت، مصدراً مذكرات توقيف وجاهية بحقّهم، في محاولة لامتصاص نقمة شعبية تولّدت إثر الانفجار الكارثي، وسط نظريات متعددة لأسباب الانفجار واتهامات سياسية وطائفية ومؤامراتية متنوعة طغت على المسار القضائي الذي استمر بعيداً عن الأضواء.
وكان لافتاً منذ اللحظة الأولى لوقوع الانفجار، توجيه الاتهام السياسي لـ«حزب الله» بالمسؤولية عن الكارثة، حيث بدأت بعض وسائل الإعلام بترويج مزاعم بأن نيترات الأمونيوم تابعة له، وأنها تستخدم في صنع المتفجرات. وقد ذهب البعض إلى افتراض أن العدو الإسرائيلي، هو مَن فجّر المرفأ بقصف جوي. كما نسجت روايات مختلفة راحت تتوسّع وتتشعّب قبل أن تظهر الوثائق والمستندات المبنية على مراسلات بين الإدارات الرسمية، وأجهزة أمنية وعسكرية، والقضاء، بأن كل المسؤولين الذين علموا بوجود المواد المتفجرة في المرفأ أهملوا اتّخاذ الإجراءات اللازمة لحماية لبنان من الدمار الشامل الذي وقع بعد سبع سنوات من تخزين نيترات الأمونيوم في العنبر 12، تحت أنظار أربع رؤساء حكومات ووزراء أشغال ومال وداخلية ودفاع وعدل واقتصاد، فضلاً عن قيادة الجيش، ومديرية الجمارك والأمن العام والأمن الداخلي وأمن الدولة، وحتى شركات الشحن والتأمين إلخ…
الوصول إلى الكبار
بعد اتّخاذ القاضي صوّان قرار توقيف حوالي 34 شخصاً يرتبطون بالانفجار، تعالت أصوات مطالبة باستكمال التحقيق مع كبار المسؤولين الذين كانوا على علم بوجود «النيترات» منذ عهد الرئيس السابق ميشال سليمان عام 2013، والحكومات التي تشكّلت في عهده، برئاسة سعد الحريري ونجيب ميقاتي وتمام سلام ثمّ الحريري وصولاً إلى حكومة دياب، الذي أُبلغ من قبل جهاز أمن الدولة في حزيران (يونيو) الماضي، أي قبل الانفجار بشهرين، ومثله رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وكلاهما أحال التقرير الأمني إلى مستشاريه الأمنيين.
وقد قرّر دياب تفقد العنبر رقم 12 قبل أسبوع من الانفجار ثمّ عدل عن ذلك، بناء لإشارة من الأمين العام لمجلس الدفاع الأعلى اللواء محمود الأسمر، وهو الأسلوب الذي اتّبع منذ تاريخ وجود المادة الخطرة، التي لم يُعرف بالتحديد مَن أتى بها إلى لبنان، ولماذا سُمح للباخرة بالتوقّف على أحد أرصفة المرفأ، ومَن هي الجهة اللبنانية الرسمية أو الخاصة التي تدخلت للسماح للباخرة، البقاء في مرفأ بيروت وتفريغ الحمولة منها؟
هذه أسئلة لم تُعرف أجوبتها بعد، سوى ما تناقلته تقارير إعلامية، أجرت مقابلات مع قبطان الباخرة، وأن تحميل نيترات الأمونيوم تمّ في جورجيا، وأن وجهتها هي دولة الموزمبيق.
ويبدو أن التحقيق القضائي، مازال في بدايات عمله، بالرغم من الضغط الشعبي الذي يطالب الإسراع في تحديد المسؤوليات، كما في إعفاء موقوفين ليسوا متورطين جرمياً، إضافة إلى أن التحقيق لم يستمع بعد إلى مسؤولين رفيعين تبادلوا المراسلات التي تثبت معرفتهم بوجود المواد المتفجرة كقائد الجيش السابق جان قهوجي والحالي جوزف عون، وبعض القضاة، الذين أمروا بنقل المواد والاحتفاظ بها. كل هذا أثار تساؤلات حول استنسابية القضاء، في الاستماع إلى إفادات مَن كانوا في موقع المسؤولية، وعلموا بمحتويات العنبر رقم 12.
التحقيق مع دياب
مع تزايد المطالبات الشعبية والسياسية بالكشف عن حقيقة ما جرى في مرفأ بيروت، ارتأي القاضي صوّان أن يرفع التحقيق إلى من هم في موقع مسؤولية، فأرسل إلى مجلس النواب رسالة مطالباً بالسماح له بالتحقيق مع وزراء سابقين يشغلون مقاعد نيابية اليوم.
وبالفعل استمع صوّان إلى إفادات بعض هؤلاء، فمثل أمامه كل من غازي زعيتر وغازي العريضي ويوسف فنيانوس وعلي حسن خليل وألبير سرحان وماري كلود نجم وغيرهم ممن تولّوا مسؤوليات وزارية مرتبطة بالانفجار، كما استمع في السراي إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب. لكنه في قرار مفاجئ، قرّر أن يستمع إلى كل من دياب وخليل وزعيتر وفنيانوس، كمشتبه بهم، وهو ما أثار موجة رفض سياسية وطائفية في موقف لافتٍ، جاء من رؤساء الحكومة السابقين، تضامناً مع دياب، ومنع المس بموقع رئاسة الحكومة، وقد ساندهم مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، فأعطوا بذلك، «حصانة مذهبية وطائفية» للرئيس دياب، ليس لشخصه بل لموقعه، فدخل القضاء في حالة ارتباك بعد التشكيك الواسع بما أقدم عليه القاضي صوّان.
كباش سياسي–قضائي
لم يقتصر التضامن مع دياب من أقطاب الطائفة السّنّيّة، بل رفض رئيس مجلس النواب نبيه برّي، تدخل القضاء في صلاحيات مجلس النواب، بمخالفته للمادتين 70 و71 من الدستور، التي تحمي النواب، وتحصر صلاحية الملاحقة بالمجلس النيابي، إذا كان الجرم ناشئاً عن مهام دستورية للأشخاص المعنيين، وكذلك المادة 40 من الدستور.
وهو ما دفع الرئيس برّي إلى مطالبة القاضي صوّان، بتزويد مجلس النواب بمستندات التحقيق مع النواب المشتبه بهم في انفجار المرفأ. أما صوّان، فأكد أن الجرم يستوجب ملاحقة كل مَن يرد اسمه، فلم يستجب لطلب مجلس النواب، وأصرّ على الاستماع إلى مَن طلب منهم المثول أمامه، بعد أن امتنعوا عن ذلك، وأوّلهم الرئيس دياب الذي انتقل من السراي إلى منزله، فيما أعلن النائبان خليل وزعيتر أنهما لن يذهبا إلى القضاء، لأنه يخالف الدستور، وهو ما برّره رؤساء الحكومات السابقون في دفاعهم عن دياب، لأن المكان الذي يحاكم به هؤلاء هو المحكمة الخاصة بالرؤساء والوزراء.
ماذا سيفعل القضاء؟
وقف إلى جانب القاضي صوّان، نقابة المحامين، وأهالي الضحايا وهيئات في المجتمع المدني، بعد أن لمسوا محاولةً من القوى السياسية لتضييع المسؤولية في جريمة مرفأ بيروت، كما حصل في جرائم وقضايا أخرى، مثل ما جرى مع التدقيق الجنائي المالي.
ولا شك أن الاعتراض السياسي على القضاء، ليس إلا طعنة جديدة للجسم القضائي الذي يعاني أصلاً من أزمة داخلية تتمثل بارتباط العديد من القضاة بالسياسيين، وبالتالي فقدان الاستقلالية التي هي مطلب إصلاحي منذ عقود.
ولا يمكن تجاهل حقيقة أن عدم إصلاح القضاء يعتبر من أسباب ترهل الدولة في لبنان، وانحلال مؤسساتها، فضلاً عن استشراء الفساد وتجاهل القانون. فالجسم القضائي نخره الفساد، باعتراف «نادي القضاة»، وهو تجمّع لقضاة يدعون إلى استقلالية القضاء ومحاسبة الفاسدين فيه، وفكّ الارتباط بينه وبين الطبقة السياسية.
فهل يقدر القاضي صوّان على توسيع تحقيقاته لتشمل كل مَن كان مسؤولاً عن انفجار بيروت منذ وصول المواد المتفجّرة إلى المرفأ، فيؤكد بذلك حياديته وقراره المستقل، حتى ولو طالت استدعاءاته كبار المسؤولين، بمن فيهم رئيس الجمهورية الذي كان يعلم أيضاً بوجود هذه المواد.
إذا ما تجرأ القضاء على فعل ذلك، وهو المتهم من كل فريق سياسي بأنه مسخّر لفريق ضد آخر، سيكون قد أثبت فعلاً أنه مستقلّ، وأن المحاسبة لازالت ممكنة في لبنان.
Leave a Reply