كمال ذبيان – «صدى الوطن»
تقدّم ملف التدقيق المالي الجنائي، على تشكيل الحكومة في لبنان، والتي أصبحت ولادتها مرتبطة بقبول الأطراف السياسية به وهي التي وافقت عليه في العلن وأصدرت قوانين في مجلس النواب لتسهيله ومنها تعليق قانون السرية المصرفية لمدة عام، وهو القانون الذي كان قد تذرّع به حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، لمواصلة إخفاء المعلومات والسجلات المالية، فاشتم من ذلك رئيس الجمهورية ميشال عون، محاولة مكشوفة لعرقلة التدقيق، فخرج الجنرال إلى الإعلام موجهاً رسالة إلى اللبنانيين طلب فيها مساندته في معركة كشف الجرائم المالية التي ارتكبت بحق الشعب على مدى عقود وطالت مدخراتهم وودائعهم المصرفية.
معارك عون
وصف الرئيس عون، المعركة التي يخوضها في موضوع التدقيق المالي، بأنها «حرب تحرير ثانية». فالحرب الأولى خاضها الجنرال ضد ما كان يسمّيه «الاحتلال السوري» في العام 1989، وكان حينها رئيساً لحكومة عسكرية، وبنى شعبيته تحت هذا الشعار الذي انتهى بنفيه إلى فرنسا بعد رفضه الاعتراف باتفاق الطائف.
ولا شك أن حرب التحرير الأولى التي خاضها عون قبل أكثر من ثلاثة عقود كلّفت لبنان مزيداً من الدمار والخراب والهجرة من خلال تمديد الحرب الأهلية التي جرى التوصل إلى وقفها بين الأفرقاء اللبنانيين برعاية دولية–عربية في مدينة الطائف السعودية. لكن عون، استكمل حربه من القصر الجمهوري الذي أقام به كرئيس لحكومة عسكرية تقوم بمقام أو تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية، الذي شغر منصبه، بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل في 23 أيلول 1988.
رفَض عون حينها مغادرة القصر الرئاسي وتسليمه للرئيس الجديد، النائب رينيه معوض الذي انتخب للمنصب في 5 تشرين الثاني عام 1989، ليتمّ اغتياله بعد 17 يوماً، وتحديداً في 22 تشرين الثاني، بذكرى عيد الاستقلال.
إثر ذلك انتخب النائب الياس الهراوي، خلفاً له، لكن عون بقي على تمرده ضد الشرعية التي لم يعترف بها، فأكمل حروبه، ضد الوجود العسكري السوري، ثم توجه نحو «القوات اللبنانية» التي قبلت باتفاق الطائف، وشن ضدها «حرب الإلغاء» تحت عنوان استعادة مرافئ ومرافق الدولة ومؤسساتها، وهو ما فعله أيضاً مع «الحزب التقدمي الاشتراكي»، لإستعادة مرفأ الجية، وتحرير الجبل من «الإدارة المدنية»، كما المنطقة الشرقية من «كانتون القوات اللبنانية»، لكن في حروبه تلك، التي كانت من الأقسى على اللبنانيين، لم تدم كثيراً، إذ صدر قرار دولي–إقليمي بإنهاء تمرّد عون في قصر بعبدا، الذي كان يزحف إليه المواطنون مؤيدين شعارات الجنرال الذي كان يناديهم بمقولته الشهيرة «يا شعب لبنان العظيم». لكن الجنرال ما لبث أن أصبح خارج لبنان بعد عملية عسكرية قادها السوريون ضده في 13 تشرين الأول 1990، ففرّ إلى السفارة الفرنسية، التي انتقل منها لاجئاً إلى فرنسا التي احتضنته لأكثر من عقد ونصف قبل عودته إلى لبنان إثر الانسحاب السوري عام 2005.
حرب تحرير ثانية
بعد العودة إلى لبنان، كانت أوضاع البلاد قد تبدلت تماماً، وإذا كانت الظروف لم تسمح له بالوصول إلى رئاسة الجمهورية في العام 1988 ثم 1989، فإن أبواب بعبدا شرعت أمامه مجدداً بعد تأسيس كتلة نيابية وازنة، جعلته في صلب المعادلة الداخلية، وبات رقماً لا يمكن تجاوزه، لاسيما بعد تفاهمه مع «حزب الله» في ورقة تفاهم مارمخايل التي وقّعها في 6 شباط 2006 مع الأمين العام للحزب، السيد حسن نصرالله، محققاً بذلك قوة مضافة، مكّنته من أن يكون المرشح الأوحد للرئاسة الأولى بعد انتهاء ولاية العماد ميشال سليمان، الذي لم يحالفه الحظ بالتمديد.
لكن اندلاع الحرب في سوريا، والصراعات الدولية عليها، أخّر من حصول الإنتخابات الرئاسية في لبنان، فامتدّ الفراغ الرئاسي حوالي عامين ونصف حظي خلالها الجنرال بدعم مطلق من «حزب الله» الذي رد الدين لعون لوقوفه إلى جانب المقاومة في خضم العدوان الإسرائيلي في تموز 2006. لكن زعيم التيار البرتقالي لم يتمكن من دخول قصر بعبدا رئيساً إلى أن حصلت التسوية بين رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، فوصل عون إلى رئاسة الجمهورية وعاد الحريري إلى رئاسة الحكومة.
وكانت لتلك التسوية أثمان دفعها «التيار الوطني الحر» بطي صفحة ما سمي بـ«الإبراء المستحيل»، الذي أصدره قبل سنوات مديناً «الحريرية السياسية» ونهجها الاقتصادي والمالي الذي أدى إلى تراكم الدين وتعميم الفساد والهدر الذي أخذ يتفشى مع غياب قطع الحساب من وزارة المال، الذي إن وُجد، كان شكلياً، فضلاً عن غياب رقابة مجلس النواب وانعدام الشفافية، ما تسبّب بأزمات مالية شارك فيها مصرف لبنان لسكوته عن الإنفاق غير المنضبط التي كانت تلجأ إليها الحكومات المتعاقبة بالاستدانة من المصارف بفوائد عالية من خلال إصدار سندات خزينة.
تلك السياسات التي قامت على الاقتصاد الريعي دون أية محاولة جدية لخلق اقتصاد منتج بدأت مع مجيء رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة وهو الذي اختار رياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان، لاتّباع سياسة تثبيت سعر صرف الليرة عند حوالي 1,500 ليرة للدولار الواحد، بعد أن كان قد تجاوز ثلاثة آلاف ليرة في أوائل التسعينيات.
مَن يطاله التدقيق؟
بعد ثلاث سنوات، على انتخاب عون رئيساً للجمهورية، وُضع شعار «الإصلاح والتغيير» جانباً، وكما مع كل عهد جديد، باشر عون وتياره السياسي في توزيع الوزارات والوظائف على الموالين، وهو الأسلوب نفسه الذي اعتمده الرؤساء منذ الاستقلال، في زجّ المحاسيب في الإدارات، والقبول بالمحاصصة، ليظهر الرئيس على غير الصورة التي بناها لمحازبيه ومناصريه، كما للشعب اللبناني.
ومع انكشاف خزينة الدولة التي تبين أنها تتجه نحو الإفلاس الحتمي، ومع انكشاف لعبة «تركيب الطرابيش» التي كانت تقوم على توفير السيولة من المصارف الخاصة لـ«مصرف لبنان» ومنه إلى وزارة المال التي كانت تنفق بلا حسيب أو رقيب، صُعق العهد الرئاسي بالواقع المالي المزري للبلاد والذي تم إخفاؤه لسنوات عبر تصريحات المسؤولين وعلى رأسهم سلامة الذي كان يزعم بأن «الليرة بألف خير» مستهزئاً بكل من يدق ناقوس الخطر حول وضعها.
وحده رئيس جمعية المصارف الأسبق فرنسوا باسيل، رفع الصوت، بأن المصارف لا يمكنها أن تستمر في تمويل حكومة تهدر الأموال على الكهرباء (ملياري دولار سنوياً) ورواتب الموظفين والمتقاعدين والذين بلغ عددهم نحو 350 ألفاً وصولاً إلى خدمة الدين العام التي كانت تلتهم معظم الموازنة، فاستُبدل باسيل الذي تعرّض لهجوم وانتقادات، قبل أن يتبين أنه كان على حق، وأن من كانوا في موقع السلطة قد خدعوا الناس بالتغطية على جريمة مالية انتهت إلى إفقار المواطنين وتجويعهم ونهب ودائعهم، وهو ما ظهرت نذره منذ العام 1997، حيث كان العجز يغطى بمكرمات خارجية وقروض واستدانة، أو بإغواء مودعين جدد لوضع أموالهم في المصارف لكسب فوائد خيالية.
وبعد أن وقعت الكارثة قبل ثلاث سنوات، بإعلان وزير المال علي حسن خليل عن توجه الدولة لهيكلة الدين، بدأت المصارف تهرب أموالها في العام 2017، وكذلك فعل رجال مال وأعمال وسياسيون وقادة أحزاب وموظفون كبار، وهذا ما أدّى إلى توقف المصارف عن إعطاء المودعين أموالهم، إلا بسقف محدد وبسعر صرف للدولار عند 3,900 ليرة في حين أن سعر السوق تجاوز هذا الرقم بأضعاف. كما أن مصرف لبنان، لم يتّخذ إجراءات تذكر لتنبيه الحكومة إلى الوضع النقدي المتدهور، فيما كان سلامة الطامح لرئاسة الجمهورية، يتواطأ مع المصارف في السكوت عن تهريب الأموال، عدا عن استمراره بتمويل الدولة من أموال المودعين.
الثلاثي المتّهم
لذلك حمل رئيس الجمهورية كلاً من مصرف لبنان والمصارف ووزارة المال، مسؤولية الانهيار، داعياً إلى إطلاق تدقيق مالي يبدأ من المؤسسات المعنية مباشرة بالمال العام، وقد تمّ تكليف شركة «ألفاريز ومارسال» للتدقيق بالخسائر التي تكبّدتها الخزينة والبالغة نحو 85 مليار دولار، وسبل إنفاقها. لكن هذا الثلاثي لم يتجاوب مع معلومات طلبتها الشركة التي بدأت عملها في تشرين الأول الماضي، فامتنع مصرف لبنان، عبر حاكمه، عن تزويد الشركة بالمعلومات التي طلبتها في 133 سؤالاً، فحصلت على إجابات 60 منها فقط، وهو ما دفعها إلى الانسحاب بعد شهر واحد على تكليفها بمهمة التدقيق.
لكن إحباط «ألفاريز ومارسال» لم يمنع الجهود التي قادها عون، فعادت وزارة المال للتواصل معها، وعقد اجتماع ثلاثي أوائل الشهر الجاري، تبين أنه شكلي، مما أغضب رئيس الجمهورية الذي وصلته معلومات بأن بعض القوى السياسية لا تريد تسهيل عملية التدقيق، ومنها وزارة المال، التي تقع تحت وصاية الرئيس نبيه برّي منذ سنوات، وأن رياض سلامة بالتفاهم مع تلك القوى السياسية، ومنها سعد الحريري ووليد جنبلاط إضافة إلى برّي، يقنّن في إعطاء المعلومات، وهذا ما دفع بعون أن يطلّ في رسالتين خلال 48 ساعة، محذراً من المماطلة، وتيئيس الشركة لكي تهرب، كما فعلت في المرة الأولى مؤكداً أنه لن يسكت عن ذلك، وأن معركة التدقيق المالي ومعرفة مصير الأموال المنهوبة، هي معركة تحرر من الفساد، لأن الفاسد لا يختلف عن المحتل أو العميل، فرفع منسوب ومستوى الحرب ضد السارقين وناهبي الأموال مقدماً هذا الملف على مسألة تشكيل الحكومة التي لاتزال عالقة منذ أشهر.
صورة العهد
يرفض عون تحميل عهده مسؤولية الانهيار الذي لم يشهد له لبنان مثيلاً في تاريخه، ولتبرئة عهده لن يتوانى عون عن خوض حربه الثانية لتحرير لبنان من الفساد، لعله ينقذ إرثه الوطني وشعبيته في أوساط اللبنانيين الذين وثقوا بشعاراته وأهدافه في تحرير الدولة من السارقين، وهو الذي قدّم لتحقيق ذلك مشاريع قوانين بصفته كنائب أو عبر كتلته النيابية، مثل قانون الإثراء غير المشروع، والتصريح عن الثروة، وتعزيز دور هيئات الرقابة والقضاء، وإنشاء محكمة خاصة بالجرائم المالية.
والآن، يبدو أن عون نجح سياسياً في ربط التدقيق الجنائي بالمبادرة الفرنسية التي تقدم بها الرئيس إيمانويل ماكرون لتشكيل حكومة جديدة، لأن الإصلاح المطلوب دولياً هو في صلب المبادرة الفرنسية، ومن دونه، لا دعم مالياً للبنان. أما الإصلاح الحقيقي فيبدأ بمعرفة الفاسدين وكف أيديهم تمهيداً لاسترداد المال المنهوب ووقف الانهيار.
Leave a Reply