كمال ذبيان – «صدى الوطن»
عندما تحصل أزمة أو أكثر في دولة من العالم، يتحرّك الشعب مطالباً بإسقاط الحكومة، أو يقوم انقلاب عسكري، أو تُجرى انتخابات مبكرة، أو تحصل ثورة تطيح بالنظام السياسي… لكن هذه الخيارات كلها غير متوفرة في لبنان، وإن كانت تحصل فيه تظاهرات واعتصامات تطالب برحيل الحكومة أو حتى تغيير النظام. ففي لبنان القائم على التوازنات الطائفية الدقيقة، ليس باستطاعة المواطنين سوى التأفف أو حتى الصراخ بوجه الطبقة السياسية الحاكمة التي يحملونها الويلات التي تصيبهم في لقمة عيشهم ورواتبهم وخدماتهم الصحية والاستشفائية، كما في أقساط المدارس، والغلاء في الأسعار، وانقطاع المياه والكهرباء وتقادم البنى التحتية، وانعدام فرص عمل للشباب لاسيما الخريجين الذين يتدفّق منهم سنوياً إلى سوق العمل نحو 30 ألفاً، في حين أن الوظائف المتاحة لا تستوعب سوى 10 بالمئة منهم كحد أقصى.
تظاهرات غير فاعلة
في الحراك الشعبي الأخير، وما سبقه قبل سنوات، علت صرخات الغضب ضد السلطة الحاكمة، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، فوقعت أعمال تدافع بين قوى الأمن الداخلي أو الجيش، وبين المتظاهرين الذين يعودون في كل مرة من الساحات والشوارع إلى منازلهم دون الحصول على حقوقهم، حتى كفروا بالنزول إلى الشارع، فتحوّل المواطنون إلى متفرجين في منازلهم، عبر شاشات التلفزة، على بضع عشرات أو مئات، يجوبون الشوارع دون نتيجة.
مرت التظاهرات الأخيرة من دون أن تحقق شيئاً، ليزداد معها يأس اللبنانيين من إمكانية حصول تغيير، فكانت الاحتجاجات دون فاعلية، مما طمأن الحكام إلى أن الشارع مضبوط وتحت السيطرة، طالما أن القوى السياسية والحزبية المؤثرة والمشاركة في الحكومة، لا ترسل محازبيها ومناصريها للمطالبة بحقوقهم، لا بل أن بعض الأحزاب لجأت إلى اعتراض سير المتظاهرين واشتبكت معهم في بعض المناطق، عدا أن بعض المتظاهرين يرفض أن يُمس بزعيمه أو رئيس حزبه، وهو ما بث مزيداً من الطمأنينة في قلوب من في السلطة بأن التظاهرات حالة عرضية واستعراضية، لا يمكن لها أن تصل إلى حد إسقاط الحكومة.
تغيير الحكومة
التاريخ يشهد على أن تغيير الحكومات في الشارع، أمر نادر الحدوث في لبنان، كما أن سحب الثقة منها في مجلس النواب أمر شبه معدوم، إلا برضا رؤسائها، في ظل ضغوط كبيرة، مثل استقالة الرئيس عمر كرامي مرتين، الأولى في 6 أيار 1992، بعد تحريك تظاهرات تمهيداً لوصول رفيق الحريري إلى الحكم، أما الثانية، فحصلت بعد اغتيال الحريري وتشكل قوى مناهضة للوجود السوري، عبر ما عرف بـ«لقاء قرنة شهوان» الذي توسع إلى «لقاء البريستول».
عون والحكومة
خلال الأسبوع الماضي، نُقل عن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، خلال حديث صحفي، بأن الحكومة الحالية «غائبة عن الوعي»، في اتهام صريح لها بأنها مقصرة في معالجة الأزمة المالية والاقتصادية، معلناً أن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على عاتق وزير المال علي حسن خليل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وهو ما خلق تشنجاً سياسياً، انعكس على عمل الحكومة التي تدرس موازنة 2020، والتي عليها أن تقرّها وترسلها إلى مجلس النواب في 15 تشرين الأول للبدء بدراستها في لجنة المال والموازنة، وإقرارها قبل مطلع العام القادم، بحيث تكون الحكومة التزمت دستورياً بتقديم الموازنة في موعدها، وقدّمت نموذجاً إيجابياً للدول الراعية لمؤتمر «سيدر»، والأخرى التي ترغب بمساعدة لبنان، بأن موازنة العام المقبل، وهي مكملة لموازنة العام الحالي، قد دخلت جدياً في مرحلة الإصلاح المالي والإداري.
الرئيس عون أراد من الحكومة أن تكون أكثر إنتاجاً، وهو الذي وصفها بأنها حكومة عهده الأولى، وهي التي تعكس في تمثيلها نتائج الانتخابات النيابية وفق قانون اعتمد النظام النسبي.
بالطبع، لم يكن رئيس الجمهورية يقصد تغيير الحكومة، بقدر ما يريد حثّها على ألا تغفو عن أزمة وجودية، تهدّد حياة الناس في رواتبهم ومداخيلهم ومعيشتهم، وسط مؤشرات مقلقة أبرزها ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة. وهو ما على الحكومة، لاسيما وزارة المال ومصرف لبنان، أن تتحرك لمنع التلاعب بسعر الصرف، والتداول بسعرين وأكثر لليرة في السوق السوداء.
وقد جاء تدخل الرئيس عون، للجم التلاعب بسعر الصرف، نافياً أن تكون في نيته إسقاط الحكومة أو تغيير رئيسها، بعد الأجواء التي شاعت وتحدثت عن أن الحكومة على طريق الرحيل، استناداً إلى ما أعلنه الوزير جبران باسيل من الخارج، بقوله «إن شركاءنا في السلطة يساهمون في الوضع المالي، والتخريب على العهد»، وكأنه ينعي التسوية الرئاسية، لاسيما وأن كلامه تزامن مع هجوم شنه النائب زياد أسود على الرئيس الراحل رفيق الحريري وسياساته المالية، التي ورثها العماد عون، مذكراً بالكتيب الذي أصدره «التيار الوطني الحر» حول الحقبة الحريرية 1992–2005، بعنوان «الإبراء المستحيل»، والذي تمّ التوقف عن التداول به بعد التسوية الرئاسية، بين «تيار المستقبل» و«التيار الوطني الحر»، والتي أنتجت انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية، وأعادت سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة.
غطاء التسوية
التسوية الرئاسية، اهتزّت أكثر من مرة بسبب تباين المواقف، سواء لجهة الأداء السياسي أو الحكومي، كما أنها تواجه عند كل منعطف بانتقادات «صقور» تيار «المستقبل» الذين رفضوا التسوية متهمين الحريري بأنه تنازل عن الثوابت وسلّم السلطة لـ«حزب الله»، إلى جانب اتهامه بالتفريط بصلاحياته كرئيس للحكومة أمام نفوذ باسيل ونواب «تكتل لبنان القوي».
وتحت جولة الضغوط الأخيرة قرر الحريري إلغاء لقاء كان مقرراً بين مسؤولين في «تيار المستقبل» وباسيل، لامتصاص النقمة عليه، بعد كلام أسود حول والده، وما سبق أن أعلنه باسيل في البقاع قبل أشهر، حول «السّنّية السياسية».
غير أن التوترات السياسية، والتباعد أحياناً في المواقف، لم يدفع بالطرفين بعد إلى إسقاط التسوية الرئاسية، التي يستمر العمل تحت سقفها، طالما أن أياً من الطرفين لا يملك البدائل، فلا عون يتطلع إلى رئيس حكومة آخر –وإن وُجد فمن الصعوبة تسويقه– ولا الحريري يريد أن يخرج من السراي فيفقد دوره السياسي وقدرته في الحفاظ على إرث الحريرية التي خسرت الكثير من جمهورها، كما أن الحريري يرى في رئاسة الحكومة موقعاً ضرورياً لتأمين مصالحه، سواء لجهة التعيينات أو المشاريع. فحصل لقاء الحريري–باسيل في بيت الوسط، منعاً لانهيار التسوية الرئاسية، وترميم العلاقة بين الطرفين.
الحكومة باقية
ومع ترتيب الوضع بين عون والحريري، وإنعاش التسوية، فإن تغيير الحكومة ليس وارداً لأنه من الصعوبة أن تتشكّل أخرى غيرها، في ظل وضع سياسي متأزّم داخلياً، وحالة اقتصادية تتّجه نحو الكارثة، مع نفاذ خزينة الدولة من المال الذي سيبدأ ترشيد إنفاقه في الموازنات المقبلة.
إذن، لا مصلحة لأي طرف سياسي داخلي في إحداث تغيير حكومي، لأن الدخول فيه دون اتفاق مسبق على الحكومة مع مكوناتها سيؤدي إلى أزمة سياسية ودستورية مفتوحة، وحكومة تصريف أعمال، لذلك لم يطرح أي مَن هم في الحكومة تبديلها، بل طالب الجميع لتفعيلها وزيادة إنتاجها والتركيز على الشأنين المالي والاقتصادي ومعالجتهما.
وقد تكون «القوات اللبنانية» الطرف الوحيد الذي يطرح تغيير الحكومة، كي لا تخرج وحيدة منها. إذ تطالب بحكومة جديدة ولو من لون سياسي واحد، لتتحمّل المسؤولية، على أن تقوم بوجهها معارضة فعلية، لأن حكومة الوحدة لا تتطابق مع طروحاتها حول الإصلاح المالي والاقتصادي، كما هي الحال بالنسبة لسلاح «حزب الله» و«قرار الحرب والسلم» كما تقول «القوات»، التي تريد الخروج من الحكومة مع كل مكوناتها، لكنها لن تذهب بطرحها إلى التصعيد، لأنها لا تريد أن تكرر أخطاء الماضي، مثل خروجها على اتفاق الطائف، ومقاطعة الانتخابات النيابية الأولى بعد الحرب الأهلية، وانكفائها عن المشاركة في بعض الحكومات السابقة.
الحكومة الحالية مستمرة بقوة التسوية الرئاسية، وإن تغييرها غير مطروح سياسياً، سواء محلياً أو إقليمياً أو دولياً، تحت عنوان الحفاظ على الاستقرار في لبنان الذي يقف على شفير فوضى مالية وانهيار اقتصادي.
Leave a Reply