شدّ الحبال ينتقل إلى القنوات الدبلوماسية بدلاً من جبهات القتال
«شيطان التفاصيل» بات اللاعب الأول في الأزمة السورية، ففي الوقت الذي حسم فيه الكل موقفه من ضرورة الانخراط في عملية التسوية السياسية، بعدما تأكدت الهزيمة العسكرية لتنظيم «داعش» في سوريا والعراق، باتت كلّ تفصيلة من تفاصيل الحراك الدبلوماسية الممتدة من جنيف إلى سوتشي تقارب بتفسيرات متعدّدة، يسعى كل طرف إلى استخدامها لصالحه، سواء بغرض إنجاح المفاوضات أو العبث بها… وإن كان الكل مقتنعاً بأن الحل السياسي هو الملاذ الأوحد.
على هذا الأساس، بات كلّ حرف من كل موقف سياسي مغلّف بكثير من الحذر حتى لا يُفسر على غير المقصود به، طالما أن المرحلة هي للتفاوض، التي كلّما تكثّفت، كلّما باتت تفاصيل المواقف المطلقة خلالها سلاحاً ذا حدّين، وتتوقف عليه الكثير من النتائج.
ولكنّ يبدو أن التركيز على التفاصيل قد بلغ حدّاً غير مسبوقٍ، جعل البعض يضفي تفسيرات مبالغاً فيها على مجرّد أخطاء شكلية في الحراك السياسي القائم حالياً، على شاكلة التفسيرات التي انتشرت كالنار في الهشيم لسقوط كرسي رجب طيب أردوغان في سوتشي، عن طريق الخطأ، بعدما سحبه فلاديمير بوتين، لدى دعوته ضيفه إلى التقاط الصورة التذكارية، حسبما تقتضي أصول البروتوكول الروسي.
كلّ ذلك مجرّد مؤشر إلى التعقيدات السياسية العابرة للحدود التي هي السمة الرئيسية للأزمة السورية في مرحلة ما بعد هزيمة «داعش»، والتي لا تقتصر على الموقف السياسي أو لغة الجسد، بل تمتد إلى تعقيدات سياسية وأمنية عابرة للحدود، تجعل الشرق الأوسط يسير بشكل جماعي في حقل ألغام، بعضه سياسي بدأ يتفجر فعلاً، كما هي الحال في لبنان واليمن والسعودية… وبعضه الآخر أمني، ينذر بخضّات دامية، كمذبحة مسجد الروضة التي ضربت مصر قبل أيام.
واذا كانت القمة الثلاثية التي جمعت رؤساء روسيا وإيران وتركيا في سوتشي محطة مفصلية لترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط، بما يتجاوز التسوية السورية، على نحو شبهه كثيرون بقمة يالطا التي رسمت طبيعة دوائر النفوذ العالمي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإنّ ما رشح منها، وما خفي، سيكون، من دون أدنى شك، محط أنظار كافة القوى الإقليمية والدولية الراغبة في حفظ ما تعتبره حقاً لها في مرحلة يصطلح على تسميتها بــ«باكس سيريانا» أو «السلام السوري».
انتهاء العمليات الكبرى
في جميع الأحوال، بات الكل يتعامل مع الأزمة السورية على أساس أن «الحرب الأهلية» بدأت تحطّ أوزارها. ولعلّ الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس بشار الأسد إلى سوتشي، والكلام الذي قيل بعد محادثات الساعات الأربع مع فلاديمير بوتين يشي بذلك، فالعملية العسكرية الروسية على قاب قوسين أو أدنى من الانتهاء، وهو ما ألمح إليه بوتين خلال ذلك اللقاء، والذي صدرت مؤشرات أكثر وضوحاً بشأنه من الجانب الروسي سريعاً.
على سبيل المثال، فقد سارعت صحيفة «آر بي كا» إلى نقل معلومات متقاطعة من مصادر في وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الروسيتين، وأخرى في الكرملين، مفادها أن روسيا تخطط لإنهاء العملية العسكرية في سوريا قبل نهاية العام الحالي. ووفقاً لتقرير «آر بي كا»، الذي حمل عنوان «رأس سنة من دون ضربات»، فإن «نهاية العملية تعني وقف الضربات الجوية من قبل القوات الجوية الروسية للمسلحين في سوريا»، إلى جانب تخفيض العدد الأقصى من الجنود الروس والمعدات المنتشرة في سوريا، لكي يقتصر العمل على تشغيل القاعدة الجوية في حميميم والمركز اللوجستي للبحرية الروسية في طرطوس.
كذلك، فإن رئيس هيئة الأركان العامة الروسية الجنرال فاليري غيراسيموف رئيس هيئة الأركان العامة الروسية أشار، في إيجاز صحافي لاحق، إلى أنه «قد يتم تقليص القوات الروسية في سوريا بشكل ملموس حتى نهاية العام الجاري»، لافتاً إلى أن «ثمة عدداً قليلاً جداً من المهام العسكرية المتبقية» في سوريا، مع تأكيده على أنه «سيتم الإبقاء على قاعدتين، هما قاعدة حميميم وقاعدة الإمداد في طرطوس، إلى جانب المركز الروسي للمصالحة الوطنية».
تناغم روسي–أميركي
وفي موازاة ذلك، برز موقفان أميركيان بارزان، يشيان بدورهما بتراجع الحلول العسكرية لصالح العملية السياسية.
الموقف الأول، جاء على لسان وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، الذي قال إن روسيا والولايات المتحدة تحاولان منع اندلاع موجة جديدة للحرب الأهلية في سوريا.
وبحسب ما قال تيلرسون، في كلمة ألقاها في «مركز وودرو ويلسون للدراسات العلمية» في واشنطن، فإنّ «الولايات المتحدة تعمل بشكل دؤوب في سوريا لإلحاق الهزيمة بداعش، وقد اقتربنا من القضاء على هذا التنظيم إلى الأبد في سوريا، ولذلك فإننا نعمل مع روسيا لتحديد كيف يمكن منع اندلاع الحرب الأهلية من جديد في سوريا»، لافتاً إلى وجود «كلام كثير» من جانب موسكو وواشنطن حول ما يعتبره الجانبان «الوضع النهائي في سوريا»، ومشددداً على أن هناك الكثير من النقاط المشتركة في هذا المجال.
وأما الموقف الثاني، فجاء على لسان المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز التي قالت أن الولايات المتحدة قد توقف تسليح مجموعات معينة في سوريا، في ضوء التقدم الحاصل في الحرب ضد تنظيم «داعش»، وهو ما يتلاقى مع إعلان صادر عن وزارة الدفاع الأميركية، ومفاده أن البنتاغون بصدد مراجعة «تعديلات» متعلقة بالأسلحة المقدمة للقوات الكردية التي تدعمها الولايات المتحدة في سوريا، ولكن من دون التطرق إلى وقف نقل الأسلحة بالكامل.
وفي الواقع، فإنّ التناغم الأميركي–الروسي النادر بشأن سوريا، يبدو مستمراً، ولا يزال يشكل أرضية مشتركة للدفع بعملية الحل السياسي إلى مستويات متقدمة، بصرف النظر عن تسجيل المواقف هنا وهناك بشأن مستقبل الرئيس بشار الأسد الذي لم يعد اثنان يختلفان على استحالة تحقيق التسوية بالشروط السابقة، المرتبطة برحيله عن الحكم.
وفي حال لم يحدث أي تطوّر داخل الولايات المتحدة، وتحديداً في ظل الصراع المستمر بين البيت الأبيض والمنظومة السياسية والعسكرية الحاكمة، فإنّ مفاعيل البيان المشترك الذي أصدره الرئيسان فلاديمير بوتين ودونالد ترامب بشأن سوريا، سيبقى عنصراً دافعاً باتجاه الحل السياسي، أو على أقل تقدير باتجاه استمرار سياسة خفض التصعيد.
ويبدو أن روسيا راغبة، بدورها، لملاقاة الأميركيين بمبادرات حسن نوايا، لعلّ أبرزها تأجيل مؤتمر الحوار الوطني السوري المرتقب في سوتشي إلى مطلع العام المقبل، وذلك لإعطاء فرص إضافية لمسار جنيف.
العقدة التركية
في ظل هذه التفاهمات الحذرة، فإنّ «شيطان التفاصيل» الأكثر تأثيراً، يجري تحضيره اليوم في تركيا التي تبدو الحلقة الأضعف في المعادلة السورية، والتوافقات الدولية والإقليمية الدائرة حولها، في حين أن ثمة «شياطين» أخرى بدأت تطل برأسها من الخليج، ولا سيما من السعودية والإمارات، اللتين تعرض مشروعهما في سوريا لكثير من التهميش.
جوهر «الشيطان» التركي يترجم اليوم بمحاولات متعددة المستويات والأوجه يقوم بها الرئيس رجب طيب أردوغان لضرب الحالة الكردية في الشمال السوري، وهو الهدف الأوحد الذي بات يسعى للدفاع عنه، بعد فشل الأهداف الكبرى التي رفعها في بداية الأزمة السورية.
وكان أردوغان واضحاً في ذلك، خلال قمة سوتشي، وما تلاها من تصريحات، حين وضع ما يشبه الفيتو على مشاركة وحدات الحماية الكردية في مفاوضات التسوية السورية، لا بل أنه ذهب أبعد من ذلك حين ألمح إلى استعداده لمقابلة الرئيس بشار الأسد والتوصل إلى تفاهمات معه بشأن «الخطر الكردي».
والواقع أن أردوغان يحاول بذلك أن يبتز روسيا بتفاهمات مقايضة، ترفع بموجبها الأخيرة الغطاء عن الأكراد في أية عملية قد يقرّر الجيش التركي القيام بها ضد الوحدات الكردية في الشمال السوري، ولا سيما في عفرين، في مقابل تقديم المساعدة لتثبيت وقف إطلاق النار في محافظة إدلب.
ولكن المسعى الأردوغاني لن يكون سهلاً، بطبيعة الحال، فالعلاقات بين روسيا وتركيا ما زالت تتسم بحالة من عدم الثقة نتيجة للسياسات المعتمدة من قبل أنقرة، وتأرجحها على مستوى الخيارات الاستراتيجية من جهة، ولكون الأكراد يمثلون ورقة قوية في الصراع السوري، على نحو يدفع روسيا إلى عدم التخلي عنهم نهائياً، ودفعهم إلى الحضن الأميركي.
ومع ذلك، فإنّ ثمة مخارج بدأت تُطرح من جانب موسكو لحل هذه الإشكالية، من خلال طروحات عدّة، أبرزها اقتراح بضم «قوات سوريا الديمقراطية» إلى الجيش السوري في مرحلة ما بعد التسوية، وإقناع الأكراد بالقبول بشكل من أشكال الإدارة الذاتية بما لا يصل إلى الفدرلة، وذلك ضمن مشروع أوسع لمستقبل الحكم في سوريا يندرج في منطقة وسطى بين اللامركزية الموسعة والفدرالية.
ولكن الطموحات التركية تبقى أبعد من ذلك، وهي تسعى لتحقيقها من خلال سياسة ابتزاز واضحة ومكشوفة بين الأميركيين والروس. وعلاوة على المسألة الكردية، فإن تركيا تسعى للاستفادة من نفوذها في الشمال السوري للحصول على مكاسب سياسية في التسوية المرتقبة، ولا سيما أن هذه المنطقة تضم أعداداً كبيرة من التركمان، ومن المرجح أن تكون قبلة للاجئين العائدين من تركيا في حال تم تثبيت الهدنة، مع كل ما يعنيه ذلك من قدرة على التأثير في الاستحقاقات المرتبطة بالتسوية السياسية بما في ذلك الانتخابات المرتقبة.
وانطلاقاً من ذلك، كان واضحاً أن الجانب الروسي قد نظر إلى تبدّل الخطاب الأردوغاني فور إعلان دونالد ترامب بأنه أصدر تعليمات بعدم تقديم أسلحة للوحدات الكردية في سوريا، وبأنه أبلغ هذا الأمر شخصياً لرجب طيب أردوغان في اتصال هاتفي.
ومع ذلك، فإنّ الموقف على الأرض أثبت أن الاعلان الأميركي ليس سوى مجرّد وعد كلامي في مكالمة هاتفية، فمنذ أيام أرسلت الولايات المتحدة المئات من الشاحنات تم استلامها في منطقة القامشلي في دير الزور حيث تجري «قوات سوريا الديمقراطية» عملية عسكرية ضد تنظيم «داعش»، وهو ما استقبلته تركيا مجدداً بموقف حاد من الولايات المتحدة، يعكس مدى تذبذب سياساتها على خط واشنطن وموسكو!
هكذا تبدو سوريا قد دخلت في مرحلة جديدة من التعقيدات، في إطار شد الحبال المتشابكة. ومع أن ثمة إجماعاً على أن شد الحبال سينتقل إلى القنوات الدبلوماسية بدلاً من جبهات القتال، إلا أن المحطات المفصلية في تلك المسيرة الطويلة قد تكون مليئة بعبثية «شياطين التفاصيل».
جنيف: مفاوضات السلام السورية «جدية» .. ومن دون شروط مسبقة
أعلن الموفد الدولي الخاص إلى سوريا ستافان دي ميستورا تمديد الجولة الراهنة من المفاوضات السورية حتى منتصف كانون الأول (ديسمبر) القادم، كاشفاً أن مسألة تنحي الرئيس بشار الأسد لم تُثر خلال النقاشات.
وقال دي ميستورا في مؤتمر صحافي عقده الخميس الماضي في مقر الأمم المتحدة في جنيف «نخطط لأن تستمر هذه الجولة حتى ١٥ ديسمبر» على أن تتضمن استراحة يمكن للوفود السفر خلالها وأن تُستأنف المحادثات الثلاثاء المقبل.
واعتبر دي ميستورا أن جولة المحادثات وهي الثامنة منذ العام 2016، «ليست اعتيادية» منوهاً بـ«المناخ المهني والجدي» للنقاشات التي انطلقت الثلاثاء الماضي مقارنة مع الجولات السابقة.
وفيما يتعلق بمضمون النقاشات مع الوفدين (الحكومة والمعارضة)، أوضح دي ميستورا أن «مسألة الرئاسة لم تناقش»، لافتاً إلى أن البحث يتناول ورقة من 12 بنداً سبق أن قدمها للوفدين في جولات سابقة حول مبادئ عامة تتعلق بالرؤية لمستقبل سوريا.
وتركز المحادثات وفق دي ميستورا على آليات صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات بإشراف الأمم المتحدة مع «التأكيد على عدم وجود شروط مسبقة».
Leave a Reply