كمال ذبيان – «صدى الوطن»
يعيش لبنان ظروفاً صعبة هي نتيجة تراكمات استمرت على مدى عقود، أقلّه منذ ما بعد اتفاق الطائف الذي أوجد المذهبية السياسية بدلاً من إلغاء الطائفية السياسية، في وقت كان يتبدل فيه الصراع العربي–الإسرائيلي تدريجياً إلى صراع عربي–إيراني تحت عناوين قومية ومذهبية مثل محاربة الروافض والتصدي للخطر الفارسي… بينما انشغلت إيران منذ ثورتها الإسلامية بدعم حلفائها في لبنان وفلسطين المحتلة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولاحقاً في دعم تماسك سوريا بوجه الحرب الإرهابية الدولية التي شُنّت ضدها، وصولاً إلى اليمن في دعم الحوثيين بمواجهة المشاريع الخليجية–الإسرائيلية للمنطقة.
حلفاء
منذ انتصار «الثورة الإسلامية» في إيران، بقيادة الإمام الخميني، عام 1979، اتّجهت أنظار «الحرس الثوري» نحو لبنان، من أجل «تصدير الثورة» إلى دول أخرى، لاسيما تلك التي فيها وجود شيعي. فكان الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، فرصة مناسبة لحضور ضباط من الحرس إلى البقاع والجنوب للمساعدة في إنشاء تنظيم مقاوم بعد أن ظهر في «حركة أمل» مَن أيّد الثورة، بانشقاق زكريا حمزة وحسين الموسوي اللذين أسسا «حركة أمل الإسلامية»، التي تحوّلت إلى «حزب الله» في العام 1984.
كانت انطلاقة «المقاومة الإسلامية» عبر حركة «أمل»، بعد المقاومة الوطنية، التي كان الحزبان «السوري القومي الاجتماعي» و«الشيوعي» أبرز العاملين فيها، إلى جانب قوى حزبية أخرى كـ«البعث» و«المرابطون».
أما ظهور «حزب الله» الرسمي، فكان من خلال مؤتمر صحفي، أذاع بيانه الأول السيد ابراهيم أمين السيد، الذي قال إن إيران تتمدّد في لبنان، وهو ما تسبّب لاحقاً بنشوب معارك بين الحركة والحزب لتحديد لمن القرار في المقاومة، وقد دخلت على خط الصراع كل من إيران وسوريا، إلى أن تمّ تنظيم الخلاف بتسليم الدور الأساسي في المقاومة لـ«حزب الله»، فانكفأت الأحزاب والقوى الأخرى.
ولا شك أن الخلاف بين حزبي «البعث» الحاكمين في سوريا والعراق، وانحياز سوريا إلى جانب إيران، بعد اندلاع الحرب العراقية–الإيرانية، ساهما في تعزيز العلاقة بين البلدين لاسيما على الساحة اللبنانية التي سرعان ما شكلت أرضاً خصبة لتمدد النفوذ الإيراني عبر إقامة مؤسسات وجذب أحزاب ومنظمات ورجال دين من طوائف عدة إلى جانب إيران التي رفعت شعار «إسرائيل سرطان يجب اقتلاعه من جسد الأمة».
كما حرص الإمام الخميني على دعم القضية الفلسطينية عبر تسمية آخر يوم جمعة من شهر رمضان بـ«يوم القدس» إلى جانب إقفال السفارة الإسرائيلية في طهران.
وبعد سنوات طويلة من دعم حركات المقاومة ضد دولة الاحتلال، تقدّمت شعبية إيران في العديد من الدول العربية والإسلامية، لاسيما مع تحقيق المقاومة في لبنان انتصارات كبيرة سواء بتحرير الجنوب في 25 أيار 2000، بعد تصدي «حزب الله» لعدوانين في 1993 و1996، أو حرب تموز 2006 التي شهدت هزائم فادحة للجيش الإسرائيلي.
وقد نجح «حزب الله» خلال فترة الوجود السوري في لبنان، في التناغم مع الدولة عبر ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة»، حتى أصبح اليوم الرقم الصعب في المعادلة السياسية الداخلية، التي دخل إليها من باب مجلس النواب في انتخابات العام 1992، ثم في الحكومة بعد انسحاب السوريين عام 2005.
وشكل نفود «حزب الله» السياسي في لبنان ركناً أساسياً في منظومة محور المقاومة باستمرار التحالف مع سوريا، التي لم تخسر حلفاءها الحقيقيين في لبنان أو أصدقاءها في إيران. وقد ساهم التفاهم السوري–الإيراني المستمر منذ عقود على الصمود في وجه المشاريع الأميركية–الإسرائيلية للشرق الأوسط، وذلك بشكل رئيسي عبر دعم وتعزيز «حزب الله» عسكرياً وسياسياً ومالياً.
نزع سلاح المقاومة
انسحاب القوات السورية عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري –رجل السعودية في لبنان– لم يأت من الفراغ بل كان نتاج تحالف داخلي قوامه البطريرك الماروني نصرالله صفير و«الحزب التقدمي الاشتراكي» بزعامة وليد جنبلاط، الذي أقام مصالحة مسيحية–درزية في الجبل، أسّست لقيام «لقاء قرنة شهوان» الذي رعاه صفير منذ العام 2002 للمطالبة بخروج القوات السورية مستنداً إلى دعم الحريري ومناخ دولي متغير تبلور لاحقاً بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي في 2 أيلول 2004 والذي نصّ على انسحاب القوات السورية، ونزع سلاح الميليشيات.
عندما تحقق انسحاب الجيش السوري وقامت حركة «14 آذار»، بمواجهة قوى «8 آذار» التي أكدت وفاءها وشكرها لسوريا، سارع السياسيون المرتبطون بالخليج والغرب، ممن رفعوا شعارات السيادة والاستقلال، إلى إطلاق معركة نزع سلاح «حزب الله»، لكن أطرافاً داخل «14 آذار» فرملوا هذا التوجه إلى ما بعد الانتخابات النيابية، حيث أقيم تحالف رباعي ضم «حزب الله» و«أمل» و«المستقبل» و«الاشتراكي» للفوز بأكثرية نيابية انبثقت عنها حكومة تضم «الثنائي الشيعي» وضعت مسألة سلاح المقاومة على طاولة الحوار من أجل إيجاد استراتيجية دفاعية، إلا أن واشنطن استعجلت نزع السلاح وتقويض الحزب ذات القدرات العسكرية المتنامية، فأعطت الضوء الأخضر لتل أبيب بشن حرب تموز 2006، بعد أن لمست واشنطن عجز حلفائها في لبنان على القيام بالمهمة.
وقد راهن الكثيرون في لبنان على أن الكيان الصهيوني سينجح بهزيمة المقاومة كما فعل بمنظمة التحرير عام 1982، عندما تم إجلاء القوات الفلسطينية خارج لبنان. وظن هؤلاء أن الوقت قد حان لإنهاء وجود «حزب الله» ومعه نفوذ إيران، لكن الفشل كان من نصيب إسرائيل التي انهزمت، ومعها مشروع الرئيس الأميركي جورج بوش «للشرق الأوسط الكبير».
فشلت إسرائيل عسكرياً، ولم ينجح فريق «14 آذار» بقيادة رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، من نزع شبكة إتصالات المقاومة، التي فرضت توازناً داخلياً جديداً في 7 أيار 2008، لتبدأ قوى «14 آذار» بفقدان مصداقيتها وحضورها السياسي والشعبي، لاسيما بعد زيارة الحريري وجنبلاط إلى سوريا رغم أن فريقاً من صقور «14 آذار» الموالين للغرب ظلوا متمسكين بالعداء المطلق لسوريا وإيران و«حزب الله».
العودة إلى 2005
ما لم تتمكّن قوى «14 آذار» من تحقيقه في عزّ أمجادها قبل عقد ونيف، وبعد سنوات من الانتظار الطويل لسقوط الرئيس السوري بشار الأسد، تسعى القوى ذاتها اليوم إلى إعدادة الكرَّة من جديد، عبر شن حملة شيطنة ضد «حزب الله» من خلال تحميله مسؤولية الانهيار المالي والاقتصادي والمعيشي في لبنان، مثلما كان يحصل من حملات مشابهة ضد السوريين خلال فترة الوصاية.
وكما كان البطريريك صفير، يتقدّم خلفه البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، الحملة ضد المقاومة من خلال طرحه «الحياد» كمخرج للبنان من محور المقاومة، الذي ترعاه إيران وسوريا.
غير أن طرح الراعي ليس إلا فكرة قديمة ماتت قبل أن تولد، رغم أن توقيتها يأتي في زمن التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وبمواكبة داخلية من سياسيين لبنانيين يشكون عدم قدرة البلاد على تحمل المزيد من الحروب والصراعات المفتوحة مع إسرائيل، متغاضين عن حقيقة أن دولة الاحتلال هي من تستبيح الأجواء وتخرق الحدود وتعتدي على سيادة لبنان وتقتطع أراضٍ منه ومن مياهه وأيضاً من ثرواته النفطية، حيث تخطط إسرائيل لابتلاع 2,230 كلم2 من مياه لبنان الإقليمية في البحر الأبيض المتوسط، ومن ضمنها بئر «كاريش» الذي بدأت أعمال التنقيب فيه. وحتى الآن لم تنفع المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، برعاية أميركية، في إقرار حقوق لبنان، التي لن تستعاد إلا بالمقاومة وليس بالدبلوماسية، وهذا ما يرفضه فريق لبناني ازدادت شهيته للسلام مع العدو الإسرائيلي في ظل موجة التطبيع العربي، التي كانت قوى المقاومة الوطنية قد دفنتها سابقاً في لبنان، باسم اتفاقية 17 أيار 1984.
أجواء توتر
الحملة الإعلامية على «حزب الله» ومن خلفه إيران، هي حملة يحرّكها جنبلاط عبر تصريحاته التحريضية أو من خلال فتح معارك جانبية، مثل استهداف «مؤسسة القرض الحسن» الموجودة منذ العام 1984، في محاولة لاستغلال الأزمة الاقتصادية الخانقة لتأليب الرأي العام ضد «حزب الله» عبر الإيحاء بأن «القرض الحسن» تؤمن احتياجات «بيئة حزب الله»، فيما بقية اللبنانيين محرومون من مدخراتهم في المصارف.
فجنبلاط يحاول أن يحيي أحلام نزع سلاح «حزب الله» التي بدأت تراوده في مطلع الألفية الجديدة بعد التحرير، حين طرح شعار «هانوي أم هونغ كونغ؟»، مؤسساً لأزمة داخلية تخللها عدوان إسرائيلي أعقبه فتح معركة شبكة اتصالات «حزب الله»، التي أدّت إلى معارك «7 أيار». وها هو جنبلاط يفتح ملف مؤسسة «القرض الحسن» للإيحاء للبنانيين، بأن هذه المؤسسة، تتحمّل مسؤولية أوضاعهم المالية المزرية، وأن «حزب الله»، يساهم أيضاً في تهريب النفط والأدوية عبر معابر غير شرعية، ويستولي على المواد المدعومة من الحكومة إلخ…
وقد تزامنت الحملة الممنهجة لشيطنة «حزب الله»، مع قمة الخليج، التي اتّهمت الحزب، وخلفه إيران، بالتخريب والإرهاب…
كل ذلك يؤسس لمعركة جديدة لن يعرف مداها قريباً، فامتناع الحريري عن تشكيل الحكومة يشي بأحداث قادمة، أقلها تفلّت أمني في الشارع قد يتطور إلى أحداث دامية في ظل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة.. فيُطرح السؤال هنا: لبنان، إلى أين؟ وما هو مصير بلاد الأرز في الأشهر والسنوات القليلة القادمة؟
Leave a Reply