تساؤلاتٌ عديدة رافقت ما أُعلِن في وسائل الإعلام عن استخدام النظام السوري للغازات السامّة في منطقة دوما، خاصّةً من حيث توقيت الحديث عن هذا الأمر الذي تزامن مع انتهاء العمليات العسكرية في منطقة غوطة دمشق، وتوصُّل الطرف الروسي لاتّفاق مع المقاتلين في دوما من أجل مغادرتهم المنطقة مع عائلاتهم. فما هي مبرّرات استخدام الأسلحة الكيمائية إذا كانت المعارك قد حُسِمت لصالح الحكومة السورية وحلفائها؟ ثمّ ألم تكن هناك تهديدات أميركية وفرنسية، منذ عدّة أسابيع، بضرباتٍ عسكرية في حال استخدام الغازات الكيمائية في الغوطة، فكيف يُعقل أن يقوم النظام السوري بما يُسبّب هذه الضربات؟
أيضاً، وفي قضية التوقيت، لماذا حدث القصف الصاروخي الإسرائيلي لمطار التيفور قرب حمص في ليلة اليوم نفسه الذي طالب به وزير الأمن الإسرائيلي جيلاد أردان، واشنطن والمجتمع الدولي باتّخاذ إجراءاتٍ عسكرية ضدّ حكومة دمشق؟ وهل هناك تفسيرٌ آخر غير وجود تهيئة غربية وإسرائيلية لعملياتٍ عسكرية في سوريا متعدّدة الأهداف بتعدّد الأطراف المعنيّة بها؟
هذه التساؤلات لا تنفصل أيضاً عن تعيين ترامب لجون بولتون كمستشار لشؤون الأمن القومي، وهو المعروف باتّجاهاته المحافظة المتطرّفة والداعية لشنّ حروب حيث هناك أزمات دولية معنية بها الولايات المتّحدة. فإدارة ترامب الآن تخضع لتأثيرات قوى ثلاث جميعها ترغب بالتصعيد في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، وهي التي ستتحكّم بالسياسة الخارجية الأميركية في هذه المرحلة. وهذه القوى تجمع بين التيّار الإنجليكي المتصهين والتيّار المعروف باسم «المحافظون الجدد»، إضافةً لدور اللوبي الإسرائيلي والعلاقة القوية القائمة الآن بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو.
وربّما يجد الرئيس الأميركي مصلحةً كبيرة الآن في حدوث انفجار عسكري كبير لأزمةٍ دولية، كالأزمة السورية وكالخلاف مع روسيا، ليس فقط لخدمة سياسة مقرّرة، بل أيضاً لصرف الأنظار عن مشاكله الداخلية وعن التحقيقات القانونية الجارية مع فريق حملته الانتخابية، ولتعزيز قاعدته الشعبية، ممّا يُسهّل تنفيذ أجندة عهده في البيت الأبيض، وممّا قد يساعد أيضاً على فوز حزبه الجمهوري في الانتخابات القادمة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر).
إنّ الجبهة الإسرائيلية–السورية–اللبنانية هي من المواقع المؤهّلة لحدوث تصعيد عسكري كبير، والتي قد يتمّ استخدامها لتغيير مسار الأزمات المشتعلة حالياً في المشرق العربي، وحيث يُحقّق فيها خصوم أميركا تقدّماً على الأرض، وحيث سيكون من الممكن الاعتماد أميركياً على دور القوّة الإسرائيلية دون حاجةٍ لتورّط عسكري أميركي واسع في هذه الجبهة. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، تحدّث أكثر من مصدر مسؤول أميركي وروسي عن احتمال قيام الولايات المتحدة بضرباتٍ عسكرية داخل سوريا ضدّ الجيش السوري وحلفائه، كما تزايدت التهديدات الإسرائيلية ضدّ قوات «حزب الله» في لبنان وسوريا.
ترامب هيّأ المناخ الآن لهذا التصعيد في سوريا والشرق الأوسط، والذي يريد الرئيس الأميركي أن يجعله متزامناً مع تخفيف الأزمة في الشرق الأقصى مع كوريا الشمالية، ممّا قد يجعله بنظر بعض الأميركيين «بطل سلام» في الشرق الأقصى و«بطل حرب» في الشرق الأوسط!. فترامب يراهن على أنّ التصعيد ضدّ روسيا وإيران وسوريا سيلقى تجاوباً من «الجمهوريين» و«الديمقراطيين» معاً، وهو أقال وزير الخارجية ريكس تليرسون الذي كان يعارض إلغاء الاتفاق مع إيران واستبدله بمايك بومبيو المعروف بمواقفه السلبية من العالم الإسلامي.
ويحرص الرئيس الأميركي الآن على نقل الاهتمام الداخلي الأميركي من مسألة التحقيقات القانونية حول دعم موسكو لحملته الانتخابية إلى قضايا خارجية ساخنة (سِلماً وحرباً)، وهو هذا المزيج المتوقّع من «سلامٍ» مع كوريا الشمالية ومن «حربٍ» في سوريا. وسيحاول ترامب إقناع حزبه الجمهوري بأنّ أجندته الخارجية هذه، ستساعد «الجمهوريين» على الفوز في مقاعد الكونغرس بالانتخابات القادمة، وستطوي صفحة التحقيقات حول الدور الروسي في الانتخابات الماضية، إذ من المعروف عن الأميركيين أنّهم يقفون خلف رئيسهم حينما يخوض حرباً في أيّ مكان.
ترامب استطاع أيضاً ضمان دعم المؤسّسة العسكرية (البنتاغون) له حيث زاد في ميزانيتها مبالغ ضخمة حتّى وصلت إلى حوالي 700 مليار دولار، رغم العجز الكبير في الميزانية الأميركية والتخفيض الذي حصل في مشروعات مهمّة صحّية واجتماعية وتربوية.
الأخطر فيما يحدث الآن هو المراهنات على سوء الأوضاع العربية والفلسطينية من قِبَل الطرفين الإسرائيلي والأميركي. فحكومة نتنياهو ترفض منذ وجودها في مطلع عام 2009 الدخول في تسويات نهائية بشأن القضية الفلسطينية، وهي عملت جاهدة على إفشال الحراك الأميركي، الذي قام به جورج ميتشل الذي اختاره أوباما مبعوثاً شخصياً له في بدء ولايته الأولى، وسعت لجعل الصراع مع إيران هو أوّلاً، ولتوريط الولايات المتّحدة في حربٍ عسكرية ضدّها، لكي تتوالد مناخات مناسبة أكثر لصراعاتٍ طائفية دامية في العالمين العربي والإسلامي، تُهمّش نهائياً القضية الفلسطينية، وتُبرّر وجود دويلات طائفية ومذهبية في المنطقة. وقد استفادت إسرائيل وتستفيد كثيراً من التداعيات السلبية التي رافقت الانتفاضات الشعبية العربية، ومن ظواهر العنف الدموي الذي يحصل الآن في عدّة بلدانٍ عربية، ومن وجود وممارسات جماعاتٍ ترفع شعاراتٍ دينية إسلامية، وتخدم في أعمالها الإرهابية السياسة الإسرائيلية الراهنة.
وللأسف، يستمرّ الآن تهميش القضية الفلسطينية عربياً بأشكال ومضامين مختلفة. وساهم في هذا التهميش الخطير، الذي كانت لبنته الأولى في معاهدات «كامب ديفيد»، ثمّ بما حصل في «اتّفاق أوسلو» من اعتراف «منظمّة التحرير الفلسطينية» بإسرائيل والتخلّي عن حقّ المقاومة المسلّحة ضدّ المحتل الإسرائيلي مقابل اعتراف إسرائيلي ودولي بـ«منظمّة التحرير» وقيادتها فقط، وليس بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه ودولته المستقلّة.
فلم تعد القضية الفلسطينية تعني الكثير لغير الفلسطينيين من العرب، بل للأسف أصبحت أيضاً قضية «التحرّر الوطني» عموماً مسألة فيها «وجهة نظر»!، إذ هناك الآن تهميشٌ للقضية الفلسطينية وطلب تدخّل عسكري أجنبي ومعايير طائفية ومذهبية وإثنية، وذلك كلّه هو المناخ المناسب لتحقيق الأجندات الأجنبية في عموم المنطقة.
إنّ العالم كلّه، وليس فقط منطقة الشرق الأوسط، مهدّدٌ الآن بانفجار حروب عسكرية وأزمات دولية لا يمكن التحكّم بمسارها وبنتائجها. فشرارة النّار موجودة في سوريا والمنطقة حولها، لكن التصعيد في الخلافات بين موسكو وواشنطن وتضارب المصالح الدولية والإقليمية سيجعل لهب النار تمتدّ للعالم بأسره. وهنا خطورة ما يحدث الآن من تغليب في الولايات المتحدة للمصالح الفئوية على حساب المصالح القومية الأميركية. وهذه تجربة عاشتها أميركا والعالم قبل 15 سنة حينما جرى غزو العراق بحجّة أسلحة الدّمار الشامل، وفي ظلّ إدارة مشابهة لما عليها إدارة ترامب الآن، وكان الثمن باهظاً لهذه التجربة التي يحاول البعض الآن تكرارها في ظروفٍ أسوأ للولايات المتّحدة!
Leave a Reply