هنا في الولايات المتحدة تراوحت ردود الفعل السلبية على تصويت الأمم المتحدة لصالح الاعتراف بفلسطين، دولة غير عضو، بين الردود السخيفة والمغيظة، والخطيرة. وإذا كانت الهستيريا المحيطة بهذا التصويت الأممي قد تبدو غريبة، بل عجيبة للآخرين، فإنها هنا في واشنطن كانت متوقعة.
الكلام كان حاداً وقوياً والأمور التي اقترحها بعض المشرِّعين كانت متطرفة، بل ويمكن أن تكون خطيرة في حال مُررت. ولكن لماذا كل هذا الخوف؟ الواقع أنه بدلاً من التقليل من أهمية ردات فعلهم باعتبارها الأمر المألوف والمعتاد الذي درجت عليه واشنطن، من المفيد بحث الأفكار غير المعلنة التي تقف خلف ردود الفعل هذه.
وفي ما يلي أحد الأمثلة على ذلك: فقد جاء في شريط الأخبار الذي يمر أسفل الشاشة على إحدى الشبكات التلفزيونية خلال نقاش الأمم المتحدة أن «المساعدة الأميركية مهدَّدة بتصويت الأمم المتحدة»، كما لو أن هذه العبارة منطقية ومكتملة ولا تحتاج لمزيد من الشرح. وكأن العلاقة بين «المساعدة» و«التصويت» غير معلنة وتعتبر من «المسلَّمات»، وهي في الواقع سيطرة المتشددين المؤيدين لإسرائيل على المخصصات المالية في الكونجرس الأميركي.
وفيما بدا محاولة لشرح هذه النقطة، انضم عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي إلى السجال خلال الأيام والساعات التي سبقت التصويت. وأول المنضمين كانت مجموعة من الجمهوريين الذين اقترحوا تعديلًا على القانون المتعلق بميزانية وزارة الدفاع، تعديلاً لا يخفض المساعدة الأميركية للسلطة الفلسطينية بـ50 بالمئة في حال سعى الفلسطينيون إلى تغيير وضعهم في الأمم المتحدة فحسب، وإنما يخفض أيضاً المساعدة الأميركية لأي دولة تصوت لصالح القرار الفلسطيني بـ20 بالمئة. والحال إن هذا المقترح خطير ويمكن أن يهدد العلاقات الأميركية مع العديد من الحلفاء المهمين عبر العالم. كما أنه سخيف وأُعد على نحو سيئ ورديء أيضاً، نظراً لحقيقة يشير إليها أصدقاؤنا في منظمة «أميركيين من أجل السلام الآن»، هي أن السلطة الفلسطينية ليست هي التي تحركت من أجل تغيير الوضع الفلسطيني في الأمم المتحدة، بل منظمة التحرير الفلسطينية؛ وهذه الأخيرة لا تتلقى أي مساعدة أميركية. كما أن هناك تعديلًا جمهورياً آخر يقترح خفض كل الدعم الأميركي للأمم المتحدة في حال صوتت هذه الأخيرة على تغيير وضع الفلسطينيين فيها.
وأخيراً، هناك تعديل يحظى بدعم مشرعين من الحزبين يقضي بقطع المساعدات الأميركية عن الفلسطينيين إذا انخرطوا في أي عمل أمام المحكمة الجنائية الدولية. وهذه محاولة واضحة وخرقاء لحماية إسرائيل من أي عمل من قبل المحكمة. أما الأمر الثاني في المقترح نفسه، فيقضي بإغلاق مقر بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن إذا لم يستطع الرئيس أن يؤكد للكونغرس، بشكل منتظم، أن الفلسطينيين منخرطون في «مفاوضات ذات معنى» مع إسرائيل، بدون أن يحددوا ما يقصدونه بـ«ذات معنى».
ومن جانبهم، صدرت عن المعلقين «الخبراء» أيضاً ردات فعل على تصويت الأمم المتحدة، حيث أطلقوا العنان لتعبيرات تافهة عما بات يصطلح على وصفه بـ«الاعتقاد السائد». فمن جهة، أشار هؤلاء إلى بعض الأمور البديهية -أن «التصويت لن يغير شيئاً على الأرض» أو أن «السلام لن يتحقق إلا عبر المفاوضات». ولكنهم أصدروا أيضاً تحذيرات ضد إقدام الفلسطينيين على اتخاذ «خطوات أحادية»، محذرين من أن تمرير الطلب الفلسطيني ستكون له «عواقب وخيمة»، و«يمكن أن يؤجج التوتر» مع إسرائيل، و«يخلق عقبة أمام عملية السلام». وهنا أود أن أطرح السؤال: «ماذا عن الخطوات الأحادية الإسرائيلية؟» أو «عن أي عملية سلام تتحدثون؟».
غير أن التعليق الأكثر إغاظة هو ذاك الذي صدر عن الإسرائيليين رداً على الإعلان بأن فرنسا ودولًا أوروبية أخرى صوتت لصالح فلسطين؛ حيث تأسفوا لكون ذلك سيحرم إسرائيل من دعم ما سموه «الأغلبية الأخلاقية» -ويقصدون بذلك الدول «الغربية البيضاء». والعنصرية التي تنطوي عليها هذه العبارة واضحة جداً ومزعجة، ومع ذلك فإن «نيويورك تايمز» نقلتها بدون تعليق.
وبينما كان كل ذلك يحدث هذا الأسبوع، عاد ذهني 24 سنة إلى الوراء، فعندما كنت أعمل مع حملة جيسي جاكسون للانتخابات الرئاسية حظيتُ بفرصة قيادة أول نقاش حول الحقوق الفلسطينية في مؤتمر سياسي. فقبل النقاش، كانت قيادة الحزب قد بذلت كل ما في وسعها لعرقلة جهودنا وتلقيت تحذيرات من قبيل: «إذا واصلت ذلك، فإنك ستدمر الحزب الديمقراطي» و«لن يكون لك أبداً مكان في هذا الحزب مرة أخرى». كما قال لي ديمقراطي بارز مؤيد لإسرائيل: «إنني خائف، إذ لم يسبق أن حدث شيء مثل هذا من قبل».
وهذه الهستيريا والخوف كانا حقيقيين. ولكن أكثر ما كان يزعجني هو أن مناوئي لم يكونوا يستطيعون الجهر أو الاعتراف بمصدر خوفهم وهلعهم. وقد كان ذلك، حسب طريقة تفكيري، أمراً غير منطقي؛ وإن كان كان منطقياً تماماً بالنسبة لهم. ولكن ولأنها تبدو مروعة جداً، فإنهم لم يكونوا يجهرون بأسباب هلعهم. فالبعض كانت تحركهم الحسابات السياسية الفجة المتمثلة في أن أي شيء يُظهر أقل من الدعم التام، ليس لإسرائيل فقط، وإنما لأي شيء تريده الأصوات الأكثر تشدداً وتأييداً لها، فإنه سيعرضهم للخطر على نحو ما، ما سيجعلهم يعانون عواقب وخيمة غير معلنة.
والواقع أن «المنطق» ذاته رأيناه في الأمم المتحدة هذا الأسبوع، مع التأثير نفسه. فقد قال العالم كلمته لصالح فلسطين، ولكن الولايات المتحدة أثبتت أنها ليست عاجزة عن العمل في انسجام مع العالم فحسب، ولكن أيضاً عن الاعتراف بالأسباب التي تجعلها لا تستطيع ذلك. وكل هذا للأسف يوضح حقيقة أنه عندما يتعلق الأمر بالسلام الإسرائيلي-الفلسطيني، فإن الولايات المتحدة ما زالت اللاعب الأساسي، ولكن بسبب القيود التي تفرضها حياتنا السياسية المشوهة على هذه الإدارة والإدارات السابقة، فإن واشنطن تبدو غير قادرة على القيام بهذا الدور.
Leave a Reply