مؤشر الأسعار يرتفع بمعدل غير مسبوق منذ أربعة عقود
واشنطن
مع اقتراب العام 2021 من نهايته، تحول التضخّم في الولايات المتحدة إلى أبرز هاجس يؤرق الأميركيين مع استمرار المسار التصاعدي لأسعار السلع والوقود وتعطل سلاسل الإمداد فضلاً عن استفحال وباء كورونا الذي ينذر بمزيد من التعقيدات الاقتصادية، رغم تطمينات المسؤولين الفدراليين بأن التضخم «مؤقت» وأن الأسعار ستعود إلى الانخفاض مجدداً في العام القادم.
وتعززت المخاوف من مستوى التضخم بعد كشف وزارة العمل الأميركية مؤخراً عن ارتفاع مؤشر أسعار المستهلك خلال شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بنسبة 6.8 بالمئة، مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، وهو ما يعتبر أسرع وتيرة تضخم سنوي تشهدها الولايات المتحدة منذ العام 1982.
ولا يزال الأميركيون يدفعون ثمناً أغلى لكل شيء، من الطعام إلى الملابس مروراً بالسيارات والوقود والإلكترونيات وتذاكر السفر. وعلى سبيل المثال ارتفعت أسعار البيض بنسبة 8 بالمئة، وقفز وقود السيارات بنسبة 58 بالمئة، كما ارتفع سعر السيارات المستعملة بنسبة 31 بالمئة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وعلى الرغم من ارتفاع الأجور بشكل لافت للعديد من العمال، إلا أنها لا تكفي لمواكبة الأسعار، ففي الشهر الماضي، انخفض متوسط الأجور بالساعة في الولايات المتحدة، بعد حساب التضخم، بنسبة 2.4 بالمئة مقارنة بشهر نوفمبر 2020.
وبينما دأب مسؤولون في إدارة الرئيس جو بايدن والبنك المركزي خلال الأشهر الماضية على القول بأن التضخم «مؤقت» وهو ناتج عن الانتعاش الاقتصادي المسجل إثر الانكماش التاريخي الذي تسبب به ظهور وباء كورونا عام 2020، غير أن البيانات الاقتصادية الأخيرة دفعت هؤلاء إلى الإقرار بأن التضخم قد يستمر لفترة أطول مما كان متوقعاً.
ومع ذلك، قال رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي، جيروم باول، إنه لا يعتقد أن التضخم خرج عن سيطرة البنك المركزي حتى الآن، معتبراً أنه يمثل مشكلة «قصيرة الأجل».
وذكر باول في مؤتمر صحفي عقده بعد اجتماع السياسة النقدية، الأربعاء الماضي، أن الاحتياطي الفدرالي يبقى تركيزه على عاملين هامين، هما الرواتب وإيجارات المنازل لرصد تطورات التضخم وما إذا كان سيكون أكثر استمرارية. وأضاف: «الأجور ليست جزءاً كبيراً من وضع التضخم المرتفع الذي نشهده حالياً، إذا كانت لديك أجور حقيقية أعلى باستمرار من نمو الإنتاجية فإن ذلك قد يضع ضغوطاً تصاعدية على الشركات ويرفع الأسعار».
لكن باول أوضح أن تكاليف الاستهلاك وأزمة سلسلة التوريد هما المحرك الرئيسي وراء تسارع التضخم، ما يبرر رؤية الاحتياطي الفدرالي بأن مشكلة صعود وتيرة ارتفاع الأسعار تظل مشكلة قصيرة الأجل.
وكان البنك الفدرالي قد رفع توقعاته لتضخم أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي إلى 5.3 بالمئة هذا العام بدلاً من تقديرات سابقة عند 4.2 بالمئة، كما توقع ارتفاع المؤشر 2.6 بالمئة في العام المقبل مقارنة بالتقديرات السابقة عند 2.2 بالمئة، وسيسجل صعوداً 2.3 بالمئة في عام 2023 بدلاً من توقعات كانت تشير لنمو 2.2 بالمئة.
ورفع الاحتياطي الفدرالي وتيرة خفض مشتريات السندات إلى 30 مليار دولار شهرياً مع بداية العام المقبل بدلاً من الخفض المعلن مسبقاً بمقدار 15 مليار دولار شهرياً، مع توقعات برفع معدل الفائدة 3 مرات في 2022.
وتوقع الاحتياطي الفدرالي عبر تقديراته الاقتصادية بعد قرار السياسة النقدية، نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.5 بالمئة في العام الجاري مقارنة بتقديرات سابقة صدرت في سبتمبر الماضي وبلغت 5.9 بالمئة.
كما يرى البنك أن الاقتصاد الأميركي سينمو بنسبة 4 بالمئة في العام المقبل بدلاً من التوقعات السابقة بـ3.8 بالمئة، بينما سيتباطأ إلى 2.2 بالمئة في عام 2023 مقارنة بتوقعات كانت تشير لنمو 2.5 بالمئة.
وفي سياق متصل قد يفاقم وتيرة التضخم، أقر الكونغرس الأميركي، الأسبوع الماضي، مشروع قانون رفع سقف الدين بـ2.5 تريليون دولار حتى عام 2023، لتصبح الديون الفدرالية نحو 31.4 تريليون دولار.
مشكلة بايدن
يشكل ارتفاع أسعار الاستهلاك في الولايات المتحدة بوتيرة غير مسبوقة منذ حوالي أربعين عاماً، مشكلة معقدة للرئيس بايدن الذي يتطلع إلى ضخّ تريليونات الدولارات الإضافية عبر خطته للإنفاق الاجتماعي والبيئي، التي تواجه معارضة واسعة من الجمهوريين الذين يحمّلون الإدارة الديمقراطية مسؤولية التضخم المستمر.
وقال زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل إن مؤشر الأسعار «يؤكد ما تعرفه كل عائلة أميركية: التضخم خارج عن السيطرة تحت قيادة الديمقراطيين».
وحاول بايدن –الأسبوع الماضي– طمأنة الأميركيين بأن الأسعار ستعود إلى الانخفاض مجدداً بعد معالجة مشكلة سلاسل التوريد، وقال: «إنها ذروة الأزمة، أعتقد أننا سنشهد تغيير الوضع أسرع وأقوى مما يعتقد معظم الناس»، معولاً على التقدم المحقق في الجوانب الاقتصادية الأخرى مثل التوظيف ونمو الإنتاج.
وبرر بايدن تسارع وتيرة ارتفاع الأسعار بأزمة سلاسل التوريد التي ظهرت مع تعافي الاقتصاد الأميركي من جائحة كورونا، موضحاً أن أرقام نوفمبر الماضي لا تعكس الانخفاض الأخير في أسعار الوقود، بعد لجوء إدارته إلى استخدام جزء من احتياطات النفط الاستراتيجية لمعالجة الصعود الصاروخي لأسعار الطاقة منذ توليه السلطة.
وكان بايدن قد أكد الشهر الماضي رداً على الانتقادات الصادرة حتى عن معسكره الديمقراطي، أن «الأولوية المطلقة» لإدارته هي قلب توجه الأسعار. لكن تبين بعد شهر أن المهمة أصعب مما كان متوقعاً، وهو ما يثير استياء متزايداً بين الأميركيين الذين يواجهون ارتفاعاً في كلفة معيشتهم منذ عدة أشهر، وباتوا يدفعون أسعاراً أعلى لكل شيء تقريباً.
مؤقت أم دائم؟
في حين يؤكد رئيس الاحتياطي الفدرالي ومسؤولو البيت الأبيض، أن «هذا الوضع لا يمكن أن يستمر طويلاً». يجزم خبراء من القطاع الخاص، بأن التضخم «دائم» ومتجه نحو تحقيق المزيد من الأرقام القياسية.
إذ يقول الخبراء، مثل محمد العريان من مجموعة «أليانز» إنه على مجلس الاحتياطي الفدرالي الاعتراف بأن التضخم ليس مؤقتاً، وعليه التحرك سريعاً لتغيير المسار.
ويرى العريان أنه حان الوقت لتغيير سياسة الاحتياطي الفدرالي، مؤكداً «التضخم ليس مؤقتاً ومن المهم حقاً أن يدرك الاحتياطي الفدرالي ذلك».
بدوره، قال جيسون فورمان، المستشار الاقتصادي في البيت الأبيض خلال ولاية الرئيس السابق باراك أوباما: إن بعض سياسات الإدارة الحالية ساهمت في تأجيج التضخم. وقال إن صانعي السياسة كانوا عازمين على تجنب الانهيار الاقتصادي لدرجة أنهم «قللوا بشكل منهجي من أهمية التضخم». ووصف ذلك بالقول «لقد سكبوا الكيروسين على النار».
وقال فورمان إن تدفق الإنفاق الحكومي، بما في ذلك حزمة الإغاثة من فيروس كورونا التي قدمها الرئيس جو بايدن بقيمة 1.9 تريليون دولار، مع شيكات بقيمة 1,400 دولار لمعظم الأسر في آذار (مارس) الماضي، بالغ في تحفيز الاقتصاد. وأشار إلى أن «التضخم في الولايات المتحدة أعلى بكثير مما هو عليه في أوروبا»، إذ تمر الأخيرة بنفس صدمات التوريد التي تمر بها الولايات المتحدة، ونفس مشكلات سلسلة التوريد، لكنهم لم يقوموا بنفس القدر من التحفيز.
وأعرب فورمان عن قناعته بأن التضخم «سيبقى معنا لفترة من الوقت»، مستدركاً بأنه سينخفض مقارنة بالوتيرة الحادة المسجلة هذا العام، «لكنه سيظل مرتفعا جداً جداً مقارنة بالمعايير التاريخية التي اعتدنا عليها».
ومن المرجح أن يستمر التضخم طالما تكافح الشركات لمواكبة طلب المستهلكين الهائل على السلع والخدمات. ويقول ريك ريدر، كبير مسؤولي الاستثمار للدخل الثابت العالمي في مؤسسة «بلاك روك»، إن الطلب الأميركي سيظل مرتفعاً، وستستمر الشركات في التمتع برفاهية تمرير أسعارها»، ما يعني أنه على المدى القريب «لن يكون هناك أي جديد».
لكن ميغان غرين، كبيرة الاقتصاديين في «معهد كرول»، ترى بأن التضخم والاقتصاد العام سيعودان في النهاية إلى شيء أقرب إلى الطبيعي. وقالت عن التضخم «أعتقد أنه سيكون مؤقتاً» لكنها استدركت بالقول: «أعتقد أنه يمكن أن يستمر عاماً آخر».
أقل من الحقيقة
من جانبه، يرى المستثمر الأميركي بيل أكمان أن أرقام التضخم المعلنة من جانب الحكومة الأميركية «أقل من الحقيقة»، مستدلاً بارتفاع أسعار الإيجارات والتي لا تنعكس في حساب مؤشر أسعار المستهلكين.
وأوضح أكمان في سلسلة تغريدات: «مؤشر أسعار المستهلكين يعتمد على استطلاعات رأي أصحاب المنازل لتقدير التضخم في تكاليف الإسكان، وهذا مقياس غير دقيق».
وأضاف رئيس «بيرشينغ سكوير كابيتال»: «المكافئ لتكلفة الإيجارات في مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي ارتفع 3.5 بالمئة على أساس سنوي، لكن أكبر مالكي المنازل المتاحة للإيجار للأسرة الواحدة على مستوى البلاد يبلغون عن زيادة الإيجارات بنسبة 17 بالمئة».
ويعتقد الملياردير الأميركي أن إعادة حساب مؤشر أسعار المستهلكين باستخدام بيانات الزيادة المختلفة للإيجارات سيجعل التضخم يصل إلى 10.1 بالمئة في نوفمبر الماضي بدلاً من 6.8 بالمئة المعلنة.
Leave a Reply