كمال ذبيان
تعاني الدولة اللبنانية فراغاً ليس فـي رأسها، بعدم انتخاب رئيس للجمهورية، بل فـي مؤسساتها الإدارية والقضائية والأمنية والعسكرية والدبلوماسية، بما يضعها فـي مصاف الدول الفاشلة التي تفقد سلطاتها دورها وصلاحياتها، فلا يحصل تداول للسطلة التي تعاني من أزمة تكوينها من خلال قانون انتخاب عصري ويعكس تمثيلاً صحيحاً وسليماً لمكونات المجتمع السياسية، ويؤسس للخروج من الحالة الطائفـية عبر إصدار قانون خارج القيد الطائفـي كما نصّ اتفاق الطائف.
فالتمديد هو شعار المسؤولين فـي لبنان، وقد استسهلوا هذه الممارسة اللاديمقراطية واللادستورية واللاقانونية، والتي لا تعكس صحة البلد سياسياً وأمنياً، وهي الذرائع التي تلجأ إليها الطبقة السياسية لعدم إجراء انتخابات نيابية والتمديد لمجلس النواب مرتين أي لدورة كاملة لمدة أربعة أعوام، من عام 2013 الى عام 2017، وعدم انعقاده لانتخاب رئيس للجمهورية، كما للتشريع أو لمراقبة عمل الحكومة ومساءلتها ووزرائها، وهذا تعطيل لأم المؤسسات التي منها تنبثق رئاسة الجمهورية والحكومة وسلطات أخرى.
فمع عدم انتظام السلطات الدستورية، وانتقال صلاحيات رئاسة الجمهورية الى الحكومة المولودة بقوة الأمر الواقع والمصلحة الوطنية والمفروضة من الخارج للحفاظ على الاستقرار فـي لبنان بقرار دولي – إقليمي وإرادة لبنانية ذاتية، فإن مؤسسات أساسية فـي هيكلية الدولة، أمام استحقاق حصول فراغ فـيها أو التمديد لها أو تكليف مَن يديرها، ومن هذه المؤسسات، قوى الأمن الداخلي التي هي امام فترة تبدأ من مطلع أيار الى أول أسبوع من حزيران، حيث يُحال الى التقاعد فـيها، ضباط – قادة، تبدأ فـي 2 أيار القادم مع المفتش العام بالوكالة العميد أنطوان البستاني، لتصل فـي 22 أيار الى قائد الدرك العميد إلياس سعادة، وتتوّج فـي 5 حزيران بالمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء إبراهيم بصبوص إضافة الى قائد شرطة بيروت العميد عبدالرزاق القوتلي الذي يتقاعد فـي 12 آب المقبل.
هذا الإستحقاق الداهم أمام الحكومة، كيف ستتعاطى معه، إذ يفترض بوزير الداخلية نهاد المشنوق أن يقدم أسماء ضباط جدد لتبوّء هذه المراكز يقدمها مجلس القيادة من الضباط الأعلى رتبة ووفق التنويع الطائفـي والمذهبي لها، وهذا الإجراء يحصل فـي الأوضاع العادية وكما كان يجري دائماً عندما يشغر مركز فـي الادارة بالتقاعد يتم التعيين وفق آلية متّفق عليها فـي وظائف الفئة الأولى أن يقدم مجلس الخدمة المدنية ثلاثة أسماء مرشحين وفق التوصيف الوظيفـي والتوزيع الطائفـي ليختار مجلس الوزراء واحداً من بين المرشحين بالتوافق أو بالتصويت بثلثي أعضاء مجلس الوزراء.
لم يفصح الوزير نهاد المشنوق عما سيفعله فـي قيادة قوى الأمن الداخلي الناقص مجلس قيادتها الذي عليه ومن صلاحياته إقرار التشكيلات والترقيات ووضع خطط لتأهيل وتجهيز قوى الأمن الداخلي، إذ أمام المشنوق احتمالات، التمديد لبصبوص ومعه قائد الدرك، أو تعيين بديلين عنهما، وفـي الحالتين ثمة أزمة ستقع فـيها الحكومة وربما تهدد بانفراطها أو أقلّه تعطيل اجتماعاتها، لأن التمديد للضباط القادة فـي قوى الأمن الداخلي إذا اتّخذ قراره المشنوق وقدمه للحكومة، سينسحب نفسه على المؤسسة العسكرية التي يحال رئيس الأركان فـي الجيش اللواء وليد سلمان فـي 21 آب المقبل الى التقاعد، وبعده بشهر قائد الجيش العماد جان قهوجي، وهو ما يرفضه العماد ميشال عون الذي رفض فـي المرة الماضية التمديد لقهوجي وسلمان ومعهما أيضاً للمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفـي الذي طلب له رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي التمديد فرفض عون وحلفاؤه لاسيما «حزب الله»، مما دفع الرئيس ميقاتي الى تقديم استقالته وطارت الحكومة دون التمديد لريفـي الذي خلفه اللواء بصبوص، ولكن التمديد طال قهوجي وسلمان، لأن الحكومة وقد تحوّلت الى تصريف أعمال، لا تستطيع أن تعيّن، فرضخ العماد عون على مضض، وتمّ التمديد لقائد الجيش ورئيس الأركان مع إعلان تحفّظه ورفضه، بأنه فـي المبدأ ضد التمديد، وهو ما مارسه أيضاً فـي رفض التمديد لمجلس النواب فـي المرتين.
فالتمديد لقادة قوى الأمن الداخلي، سيُحرج عون الذي هدّد بالاستقالة من الحكومة حتى ولو لم يتضامن معه حلفاؤه لاسيما «حزب الله» الذي يؤيّد مطالب عون بأن يكون العمداء الموارنة المؤهلين لقيادة الجيش هم مَن يتولونها بعد انتهاء فترة التمديد لقهوجي، سواء أكان انتخب رئيس للجمهورية أو لم يُنتخب، وأن ثلاثة عمداء مطروحة أسماؤهم لهذا المركز وهم شامل روكز الأكثر أهلية واسمه يتقدم على غيره من الضباط لشجاعته وكفاءته، وجورج نادر ومارون حتي، ويصرّ عون على قائد فوج المغاوير العميد روكز وهو صهره أيضاً، حيث يحاول البعض ربط تعيينه بالقرابة، إلا أن المؤسسة العسكرية وشخصيات رسمية وسياسية فـي 8 و14 آذار تشهد للعميد روكز مناقبيته وتضحياته ومهنيته العسكرية، بأنه أهل لتولي قيادة الجيش التي سعى البعض الى مقايضة عون عليها، بأن يصل صهره روكز إليها، مقابل أن يتخلّى عن رئاسة الجمهورية، لكنه رفض هذا الطرح الذي لا يجوز فـيه المقايضة.
وقدّم رئيس «التيار الوطني الحر» اقتراحاً يقضي بأن تمر التعيينات بشكل طبيعي فـي كل المؤسسات الأمنية والعسكرية، وبما يقترحه القادة السياسيون المعنيون بذلك، بأن يعيّن رئيس فرع المعلومات العميد عماد عثمان مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي بدعم من تيار المستقبل ، ويقترح النائب وليد جنبلاط ضابطاً درزياً لرئاسة الأركان وتمّ التداول باسم العميد فادي أبوفراج، على أن يتم تعيين العميد روكز قائداً للجيش وقبل أن يحال الى التقاعد فـي تشرين الأول المقبل، وبعد حوالي شهر من تقاعد العماد جان قهوجي، لكن اقتراح عون قبل به الرئيس سعد الحريري الذي وافق على المبدأ ثم تراجع تحت ضغط حلفائه المسيحيين فـي 14 آذار، وعلى رأسهم رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي يخشى وصول ضابط عوني الى قيادة الجيش المفقود الود معها بسبب الحروب والتصفـيات التي شنّها عليها وعلى ضباط فـيها.
وهكذا تصل الحكومة أمام مصير وجودها، إذا ما سارت فـي التمديد للقادة الأمنيين والعسكريين الذي يؤكّد المسؤولون أنهم ضده ومع التعيين، لكن إذا فرضت الظروف الاختيار بين التمديد أو الفراغ، فالتمديد أهون الشرّين، وهذا ما يعلنه حلفاء العماد عون الرئيس نبيه برّي والنائب سليمان فرنجية، ولا يفصح «حزب الله» عن موقفه، لكنه لا يرفض التمديد إذا ما أصبح أمراً واقعاً ولم يتمكّن العماد عون من أن يُقنع القادة السياسيين المشاركين فـي الحكومة بالتعيين، وقد جال عليهم ولم يحصل منهم على جواب نهائي وإيجابي، إذ أبلغه النائب وليد جنبلاط أنه مع أبغض الحلال وهو التمديد الذي ستكون قوى الأمن الداخلي أولى امتحاناته الشهر القادم، وكيف سيتصرّف أطراف الحكومة التي كادت مرات عدة أن تهتز وتسقط وتوقف اجتماعاتها باعتكاف رئيسها تمام سلام الذي يقف مع الرأي القائل أن تكون التعيينات الكبيرة بعد انتخاب رئيس للجمهورية، إذ كان العُرف دائماً أن يسمي رئيس الجمهورية قائد الجيش ومعه مدير المخابرات الماروني كما مدير الأمن العام الذي أصبح مركزاً للشيعة، وحصل المسيحيون على المديرية العامة لأمن الدولة ومن حصة الكاثوليك بعدما كانت مع الشيعة.
فالتعيينات الأمنية والعسكرية، يتعاطى معها العماد عون بجدية، وهو يشعر أن تكتله النيابي الأكبر مسيحياً، لا يستطيع أن يقرر بالمراكز المارونية والمسيحية فـي مؤسسات الدولة، لا بل يتم التعاطي معه بالتهميش كما يؤكّد لمن يزورونه فـي الرابية، ويعطي مثالاً أن الرئيس السابق للجمهورية ميشال سليمان رفض تعيين القاضي طانيوس مشلب رئيساً لمجلس القضاء الأعلى لأن عون اقترحه وهو من القضاة المشهود لهم، وأصرّ سليمان على تعيين القاضية أليس شبطيني، ليخرج الاثنان من المنافسة، ويحل مكانهما القاضي جان فهد الأقرب الى سليمان و14 آذار، وكوفئت شبطيني بتعيينها وزيرة للمهجرين فـي الحكومة الحالية برئاسة سلام.
والتصلب الذي يبديه العماد عون بموضوع التعيينات يستند الى أن الحكومة قامت بتعيين لجنة الرقابة على المصارف ومجلس إدارة الهيئة الاقتصادية فـي طرابلس ومحافظين وموظفـين فـي الفئة الأولى كالأمين العام لمجلس الوزراء، وبهذه التعيينات سهّل وزراء «التيار الوطني الحر» و«تكتل الإصلاح والتغيير» حصولها، فلماذا لا تنطبق هذه الإجراءات على المؤسستين الأمنية والعسكرية، أليس لأن الضباط المقترحين لقيادة الجيش أو قيادة الدرك قد سماهم عون وينتسبون له بالقرابة كما فـي مسألة العميد روكز، أو فـي العلاقة السياسية كما فـي أسماء ضباط فـي قوى الأمن الداخلي.
فالحكومة إما أن تقوم بمهامها الدستورية والسياسية فـي إجراء تعيينات، وهي لا تصرف الأعمال، بل تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية الذي لو كان موجوداً، فلن تحل الأزمة كما يعلن البعض، لأن ثمة تجارب حصلت فـي عهد الرئيس سليمان وتعطلت تعيينات لأسباب سياسية وفئوية ومصلحية، وليس من تأثير على تعيين قائد للجيش ورئيس للأركان أو مدير عام لقوى الأمن الداخلي وقائد للدرك، لأن أسماء الضباط موجودة، والتراتبية موجودة لجهة الأقدمية والمهنية والكفاءة، وما على الحكومة إلا أن تحزم قرارها السياسي، لأن المواصفات الوظيفـية موجودة، وما عليها إلا أن تقرّ التعيينات، وِإلا وجودها مهدّد، أو أقلّه عدم انعقاد جلساتها إذا ما استقال وزراء «التيار الوطني الحر» أو اعتكفوا، فـي ظل عدم وجود رئيس للجمهورية، والحكومة بحاجة فـي توقيع مراسيمها لكل الوزراء، مما يعني تعطيل السلطة التنفـيذية بعد شغور رئاسة الجمهورية، واكتفاء مجلس النواب برفع شعار «تشريع الضرورة» وهو لم يحصل أيضاً، لأن الفريق المسيحي لا يشرّع فـي غياب رئيس للجمهورية، بل يريد لمجلس النواب أن يبقي جلساته مفتوحة للخروج من هذا الاستحقاق الذي وصل الى عامه الأول دون أن يحصل الانتخاب ، لا بل إن الانتخابات الرئاسية تزداد تعقيداً مع التطورات المتسارعة فـي المنطقة، والحرائق التي تلف جوار لبنان، الذي يعيش مرحلة الانتظار التي إذا ما طالت فإن مؤسسات الدولة الى مزيد من شغور وفراغ، إذ تنتهي ولاية المجلس الدستوري فـي 5 حزيران، ولا مجال لانتخاب مجلس النواب خمسة أعضاء جدد، ولا الحكومة تستطيع تعيين خمسة آخرين مع عدد مرشحين قليل وصل الى 26 سيتم اختيار عشرة منهم كأعضاء للمجلس الجديد الذي ستتأخر ولادته حتى انتخاب رئيس جديد للجمهورية يقسم أمامه الأعضاء الجدد اليمين ، ويستمر المجلس الحالي بممارسة مهامه وفق القانون، وهو ما ينتظر أيضاً مجلس القضاء الأعلى الذي سيشغر من أعضائه، إضافة الى وجود حوالي 30 مركزاً فـي الفئة الأولى يشغلهم مدراء بالإنابة أو الوكالة.
إنها دولة دون مؤسسات، أو دولة الشغور من رأسها الى أخمص قدميها…
Leave a Reply