مرة جديدة يرسم وليد جنبلاط معالم المشهد السياسي في لبنان. هذه المرة لن تكون استدارة زعيم المختارة كسابقاتها؛ ذلك أن المعطيات الاقليمية، والمساس بالنظام السوري تحديدا، لا تحتمل مواقف رمادية ولا “وقفة على التل”.منذ زيارة عرّاب ثورة الأرز جيفري فيلتمان الأخيرة الى بيروت، برزت مؤشرات التحول في موقف “البيك” الذي توّج حراكه داخليا وخارجيا أخيرا بلقاء أمير قطر قائد الحملة السياسية الاقليمية على سوريا.ولئن عاد جنبلاط متشائما من الدوحة، فإن علمه المسبق بالدور القطري في هذه المرحلة واطلاقه عدة مواقف “حمّالة أوجه” في ما يخص الداخل مجددا، يؤشران بقوة الى أن الزعيم الدرزي يعيد تموضعه السياسي استعدادا لموجة ثانية في الداخل السوري، يواكبها هذه المرة مسارات متوازية في لبنان. على أن تتوزع هذه المسارات في ساحة حلفاء حزب الله وفي البيئة الاجتماعية والأمنية المحيطة بالمقاومة.وقد بدأت بالفعل ارهاصات المرحلة الجديدة بجملة احداث لا يمكن تصنيفها ضمن الصراعات المحلية؛ بدءا من قضية الشبكة الخليوية الثالثة المكتشفة حديثا وارتباطها بأعمال لوجيستية تستهدف منطقة الساحل السوري، الى التفجير الذي طال دورية لدورية ايطالية في اليونيفيل جنوبا، فالاستعدادات المتبادلة عند الحدود اللبنانية– الاسرائيلية لإحياء ذكرى النكسة في 5 حزيران مع ما تحمل هذه الخطوة من رمزية الى قرار باستخدام هذه الورقة للجم الإندفاع الأميركي-الاسرائيلي تجاه سوريا، وعودة الحديث عن اتفاق الطائف بعد فترة سبات سياسي كاد معها الشعب أن ينسى وجود هذا الاتفاق.في القضية الأولى، لا يبدو ان محاولات التغطية على ما حصل الأسبوع الفائت في وزارة الاتصالات ستمر من دون تبعات تطال العلاقة اللبنانية-السورية؛ ذلك أن انكشاف تورط قوى “14 آذار”، و”تيار المستقبل” تحديدا، في الداخل السوري يستتبع جرّ لبنان الى قلب صراع اقليمي لا يبدو انه مؤهل لتحمله، في ظل الإنقسام الحاد في المعسكرات الدولية.وبالتالي، فإن كل ما يرد في الصحف حول ما تبع حادثة الاتصالات واستقالة وزير الداخلية زياد بارود على اثرها لا يعدو كونه صفحة الغلاف لكتاب يحوي مضمونه ما هو أبعد من حدود لبنان الجغرافية.ولعلّ رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان كان من اوائل المتلمسين لخطر وأبعاد هذه القضية، بإصراره احالة مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، على القضاء العسكري، للتحقيق في حادثة “الامتناع عن تنفيذ أمر وزير الداخلية زياد بارود” المتعلّق بسحب قوّة فرع المعلومات التي كانت متمركزة في الطبقة الثانية من مبنى وزارة الاتصالات في العدلية.في القضية الثانية، جاء الانفجار، الذي استهدف دورية مؤللة للقوة الايطالية العاملة في “اليونفيل” على طريق الرميلة ـ صيدا، ليعيد فتح باب الخيار الأمني. علما ان هذا الانفجار لا يمكن فصله، في الرؤية الأوسع، عن القاء القبض على شخص كان يحاول اطلاق صاروخ الى الأراضي المحتلة من الجنوب، وعن المشهد المربَك لجيش اسرائيل عند بلدة “مارون الراس” الحدودية.وفي حين تؤشر المعطيات الأولية الى ضلوع جهة أصولية في التفجير، فإن ما هو اخطر قدرة هذه الجهة، بغض النظر عن هويتها، في الوصول الى ممر حيوي ما بين العاصمة بيروت ومدينة صيدا؛ وهو ما يؤشر الى اشكالية أمنية حقيقية على الجهات المختصة معالجتها سريعا، قبل ان تصبح تلك المنطقة مساحة جغرافية لإيصال رسائل دموية.على مسار موازٍ، وعلى الرغم من الأحاديث المتزايدة عن ضغط يتعرض لها الجيش اللبناني لمنع تكرار مشهد الحدود الأخير، حين قام المئات من الفلسطينيين بإحياء يوم النكبة، يبدو واضحا أن التراجع عن احياء يوم النكسة غير وارد في حسابات الجهات المنظمة. وقد كان كلام أمين عام حزب الله أخيرا في الذكرى السنوية لرحيل الإمام الخميني واضحا في توفير غطاء سياسي لهذا التحرك.وعند الجهة المقابلة، بدا الارباك الاسرائيلي في التعامل مع الواقع الجديد، وقد وضع جيش العدو خططا لزيادة عدد قواته المنتشرة على ثلاث جبهات مختلفة استعدادا لاحياء ذكرى يوم النكسة، حيث تتخوف المحافل العسكرية والأمنية في تل أبيب من حصول عمليات تسلل الى الأراضي المحتلة.التطورات المرتقبة جنوبا غطّت على المسار الحكومي، بعد عودة ارتفاع مؤشرات التفاؤل، غير أن هذا التفاؤل يبقى هشًا بسبب قرار اقليمي رافض لتشكيل حكومة لا يكون لقوى الأكثرية السابقة اليد الطولى فيها. وكان لافتا في المجال مؤشران؛ اولا، ما نقلته مصادر جنبلاط عن أمير قطر تحميله سوريا مسؤولية فشل اتفاق الدوحة، ثانيا، حديث السيد نصرالله عن بناء الدولة والتحدي المتمثل في جزء كبير في القرار الأميركي بتقسيم المنطقة.من هذا المنطلق أيضا، وفي سياق تلمس المخاطر والتغيرات الاقليمية والدولية، تداولت المواقف السياسية اتفاق الطائف، فكان الأبرز موقف البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي اعتبر أن “اتفاق الطائف ليس منزلا”، لافتا الى ان التجربة “بينت ان هناك الكثير من الثغرات ولا مانع من التغيير واذا كنا بحاجة الى طائف جديد فلا مانع من ذلك”.كما شدد الراعي على وجوب اعطاء المزيد من الصلاحيات لرئيس الجمهورية، داعيا الى البدء بوضع قانون جديد للانتخابات.بدوره، طالب السيد نصر الله بـ”إستبدال الدعوة الى تعديل إتفاق الطائف بتطوير النظام”، مشددا على أننا “في لبنان جميعا نريد مشروع الدولة ونؤيد مشروع الدولة ومن حيث المبدأ لا أحد من اللبنانيين لا يريد الدولة”، لافتا الى أن “مشكلتنا أن الصيغة قبل الطائف كانت نتاج التسوية والصيغة القائمة حاليا أتت نتيجة تسوية، وبسبب طبيعة البلد يصعب اتباع الاجراءات العادية لوضع دستور، لذلك نجد أننا أمام أي أزمة يفتح هذا الجدال من جديد وننقسم من جديد وهو نقاش الدعوة لتعديل الطائف في مقابل الدعوة للتمسك به والخشية دائما أمام مطلب من هذا النوع العودة للانقسامات الطائفية”، مؤكدا أنه “عندما نتحدث عن تطوير نتحدث عن سعي للتوافق والتلاقي والاجماع وليس الى الغلبة لأن هذا يؤدي لنتائج سلبية وعسكية”.ولفت السيد نصرالله الى أنه “كنتيجة لأزمة النظام تنشأ دائما لدينا أزمات تشكيل حكومات”، مشددا على أن “الخطاب القائم غير مبرر أيا تكن السير الذاتية لتشكيل الحكومات سابقا”، مؤكدا وجوب “اننا نواصل العمل وسنصل الى نتيجة بكل تأكيد ونحن كجزء من الأكثرية الجديدة نعرف الصعوبات ونتفهم مخاوف وقلق بعض الحلفاء والأصدقاء ولسنا في وارد توزيع المسؤوليات وأولويتنا مواصلة العمل والتعامل مع الجميع ومساعدة ميقاتي لتشكيل الحكومة وأي انفعال منا يؤذي هذه المساعي لن نقدم عليه وتشكيل الحكومة مصلحة وطنية وليس حزبية ونقدمها على أي اعتبار”.وقال “لا يجوز أن نصاب بالإحباط ولا أن ينال منا اليأس ولا أحد يستطيع أن يحيد نفسه عن مسؤوليتنا أمام الشعب والمساعي قائمة ومستمرة واستؤنفت بفعالية ونأمل أن تدفع التطورات الآخيرة الجميع للتعاون والتكافل لحسم هذا الأمر الذي ينتظره اللبنانيون”.وأكد نصرالله أنه “على القيادات السياسية أن تدرك أنها تتحمل مسؤولية كبيرة جدا ومن الخطأ التعامل مع الأوضاع في لبنان بمعزل عن أوضاع المنطقة مع العلم أن ما يجري حولنا خطير جدا”، مشددا على أنه “من أوجب الواجبات الحفاظ على مؤسسات الدولة في لبنان وبنيتها بمعزل عن واقعها المتعثر هنا أو المرتبك هناك وكل مؤسسة من مؤسسات الدولة يجب أن نعمل على الحفاظ على تماسكها وخصوصا المؤسسة الأمنية وبالاخص الجيش لأن هذا يحافظ على وحدة البلد وامنه”.اما رئيس جبهة “النضال الوطني” النائب وليد جنيلاط فاعتبر ان البلد لا يستطيع ان يتحمل مجددا اتفاق “طائف” جديد، مع الاخذ بيعن الاعتبار بالتوافق تعديل صلاحيات رئيس الجمهورية.
Leave a Reply