بيروت – كمال ذبيان
كما فـي مطلع العام الماضي، إفتتح مسلسل التفجيرات من الضاحية الجنوبية ليمتد الى البقاع الشمالي والهرمل، ليصل الى بيروت فـي الروشة، ويتوقف فـي حزيران من العام نفسه، فإن السنة الجديدة بدأت مع تفجيرين لإنتحاريين فـي جبل محسن، ليهز الأمن فـي طرابلس بعد إستقرار عرفته عند تطبيق الخطة الأمنية فـيها منذ أيار من العام 2014، وتوقيف قادة المحاور فـي باب التبانة وخروج علي عيد رئيس الحزب العربي الديمقراطي، ونجله رفعت من جبل محسن، الى أن تمكّن الجيش من إجتثاث آخر وجود للإرهاب فـي عاصمة الشمال، بإنهاء المربّع المسلّح لشادي المولوي وأسامة منصور، اللذين بايعا تنظيم «داعش» وكانا يتواصلان مع «جبهة النصرة» وأرسلا المقاتلين الذين بلغ عددهم نحو 150 بحسب تقارير أمنية، ويقتل منهم فـي سوريا والعراق، حيث تمكّن المولوي ومنصور من الفرار من باب التبانة، دون أن تحدد وجهة هروبهما منذ نهاية تشرين الأول الماضي، فذكرت تقارير إعلامية وأمنية أنهما فـي حي الطوارئ فـي مخيم عين الحلوة، الذي يضم الوجود الإسلامي المتشدّد لـ «جند الشام» و«عصبة الأنصار» وفتح الاسلام ، وتحدّثت معلومات أنهما صعدا الى جرود الضنية، فـي حين أشارت أخرى الى أنهما تسلّلا الى جرود عرسال للإلتحاق بالجماعات الإرهابية فـيها.
آثار الدمار الذي خلفه الإنفجار الإنتحاري الذي ضرب أحد مقاهي منطقة جبل محسن |
فالتفجير المزدوج الذي نفّذه الإنتحاريان طه خيال وبلال محمد مرعيان، وهما من حي المنكوبين المجاور لجبل محسن، ولا يبتعد سكنهما سوى أمتار عن المكان الذي فجّر فـيه الحزامين الناسفـين وفـي مقهى يكتظ بالمواطنين، وحصل كل منهما بوقت متباعد فـي الدقائق، ليسقط أكبر عدد من الضحايا، كما أن اختيارهما من المنطقة التي كانت تشهد جولات قتال بين حيين يختلفان بالإنتماء المذهبي (سنّي – علوي)، وبالتوجه السياسي، إذ يدين جبل محسن بالولاء للنظام السوري، وباب التبانة تحتضن معارضين سوريين جلّهم من الجماعات التكفـيرية، إذ كان الهدف من الإعلان المباشر عن التفجير المزدوج وإسمي الإنتحاريين، هو حصول رد فعل إنتقامي من أهالي ضحايا جبل محسن، وإعادة إشعال محاور القتال، وضرب الخطة الأمنية، لعودة عقارب الساعة الى الوراء، وإحياء «الإمارة الإسلامية» التي كانت بدأت تنشأ فـي طرابلس لتكون جاهزة لإستقبال الغزاة القادمين إليها من جرود عرسال عبر البقاع الشمالي، للوصول الى البحر، كما كانت الخطة العسكرية لتنظيمي «داعش» و«النصرة» عند الهجوم على مراكز الجيش ومواقعه فـي عرسال وجرودها فـي 2 آب الماضي، وقد ردّ الجيش على الهجوم المباغت والغادر الذي شارك فـيه مسلحون من عرسال وآخرون من النازحين السوريين فـي المخيمات بالبلدة، ليمنع تمدّد الإرهابيين الذين كشف قائد الجيش العماد جان قهوجي، عن مخططهم فـي إقامة «إمارة إسلامية» ومحاولة توسعهم من البقاع بإتجاه طرابلس والساحل الشمالي الممتد منها نحو المنية وعكار ليكون لهم منفذا على البحر ، لكن المحاولة فشلت فـي مطلع آب، ثم فـي نهاية تشرين الأول، لتتجدّد عبر التفجير المزدوج فـي جبل محسن، الذي أكّد أهله على وعيهم فلم ينجروا الى رد فعل انتقامي ، لو حصل لكانت طرابلس فـي حرب محاور جديدة، تعيد المسلحين إليها مع قادة محاورهم.
ولقد نبّه وزير الداخلية نهاد المشنوق قبل أشهر الى أن لبنان سيشهد فـي العام الحالي، وضعاً أمنياً قد يكون أصعب مما عرفه فـي السنة السالفة، وأعاد التأكيد على ما أعلنه مستنداً الى أنه طالما الحريق السوري مشتعل فإن لبنان لن يعرف الإستقرار، كما لن تعرفه دول أخرى التي بدأ الإرهاب يضرب فـيها، وتداعيات الأزمة السورية تنعكس عليها، كما حصل مع عملية مجلة «تشارلي إيبدو» فـي باريس ، وقتل صحافـيين ورسامي كاريكاتور فـيها، وتبنّي تنظيم «داعش» الذي ولد من رحم القاعدة للعملية الإرهابية، التي وضعت أوروبا والعالم أمام مرحلة جديدة من الصراع، وحصل ما كان توقعه قادة أوروبيون ومحللون سياسيون ودبلوماسيون، من أن العناصر والجماعات التي يجري إرسالها الى سوريا للقتال ضد النظام السوري، ستعود لتقوم بأعمال إرهابية فـي دول أوروبية ومنها مَن له موقف معاد للنظام فـي سوريا، حيث تبيّن أن الإرهابيين الذين نفّذوا جريمتهم فـي المجلة، شاركوا بالقتال فـي سوريا وتدرّبوا فـي اليمن، وهو ما حصل أيضاً فـي اسطنبول قبل حادثة باريس عندما قامت فتاة إنتحارية بتفجير نفسها فـي مركز للشرطة، فقتلت شرطياً وجرحت آخرين، وكانت رسالة الى القيادة التركية، أن مَن سهّلت وصولهم من الإرهابيين الى سوريا منذ بدء الأزمة
فـيها، عادوا إليها لا بل أن 12 ألف تركي إنضموا الى «داعش» الذي كما أكد مدير المخابرات التركية، تبنّى تفجير مقر الشرطة فـي اسطنبول، كما الهجوم الإنتحاري على موقع لحرس الحدود السعودي مع العراق فقتل نتيجته ضابط وعدد من العناصر.
فما حصل فـي جبل محسن هو من ضمن مسلسل التفجيرات الإرهابية التي تضرب فـي العالم بإسم «الإسلام» وتحت رايات سود تحمل عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وهذا يشير الى أن المعركة ضد الإرهاب باتت واحدة، ولم يعد إسقاط النظام السوري هو الهدف، إذ بدأت
دول تغيّر فـي قراءتها لما يجري فـي سوريا وبدأ قادتها ينظرون لما يحصل على أنه حرب على الإرهاب يخوضها الرئيس بشار الأسد، الذي كان حذر هذه الدول من أنّ الإرهاب سيصل اليها ويدعون ويؤكدون انه لا بدّ من التعاون معه لمحاربة الجماعات الإرهابية التي بدأت ترتد على الدول التي قدمت منها.
ولبنان سيكون أمام سنة من استمرار المواجهة مع الإرهاب الذي يقيم فـي جرود عرسال دولته، وله خلايا نائمة وأخرى معروفة بالتحريض والتعبئة والتجنيد من خلال مساجد ومصليات، حيث كشف أهالي الإنتحاريين فـي جبل محسن أن طه وبلال كانا يتردّدان على أحد المساجد التابعة لـ «حزب التحرير» المتشدّد ويتلقون فـيه دروساً دينية، الى أن إنضما الى مجموعتي المولوي ومنصور، ثمّ ذهبا الى جرود القلمون ليتم تدريبهما وإعدادهما لعمل إنتحاري فـي جبل محسن للتخلص من «النصيرية» كما جاء فـي بيان «النصرة» التي تبنّت العملية، ووعدت بغيرها من العمليات التي ستستهدف الروافض (الشيعة) والجيش والسّنّة المرتدين، وأن العشرات لا بل المئات من الإنتحاريين جاهزون لتنفـيذ ما يطلب منهم، إذ تحدّثت تقارير أمنية عن أن حوالي 30 إنتحارياً قد تمّ تجنيدهم ينتظرون ساعة الصفر، للقيام بعمليات إنتحارية بأحزمة ناسفة، فـي أسلوب جديد لا تستخدم فـيه السيارات المفخخة التي تخضع لرقابة أمنية مشدّدة عند المعابر.
وقرار تفجير الوضع الأمني فـي لبنان، إتّخذته «داعش» والنصرة، وهما يبتزان أهالي العسكريين المخطوفـين، لتأمين كل ما يمكنهم من بقائهم فـي جرود عرسال لتنفـيذ مخططهم الذي لن يتراجعوا عنه وهو إقامة دولتهم من العراق الى لبنان مروراً بالشام، لذلك جاءت شروطهم الأخيرة لإطلاق سراح المخطوفـين تتعدى إخراج السجناء الإسلاميين من روميه، بل مطالب لها طابع لوجستي مثل مستشفى ميداني، إضافة الى طريق آمن للعبور منه الى عرسال، ووصول المواد الغذائية والصحية والنفطية، وهو ما يكشف عن أن الإرهاب يضرب حتى تحقيق أهدافه، وجاء رد وزير الداخلية فـي سجن روميه بتفكيك «الإمارة الإسلامية» فـيه وتبيّن أن غرفة عمليات فـيها تحرك عناصر ومجموعات إرهابية لتقوم بجرائمها، وهي باتت تتحكّم بالسجن وتحديداً فـي المبنى «ب»، وتفرض إدارتها له وتقيم محكمتها الشرعية وتنفّذ الإعدام بكل سجين يخالفها الرأي، والأجهزة الأمنية عاجزة عن مواجهة هذه الظاهرة التي نمت وكبرت وتمرّدت على قوانين السجن، بتواطؤ من ضباط وعناصر مولجين إدارته وحمايته وفرض الأمن فـيه، فسهّلوا دخول الممنوعات كالمخدرات، وتغاضوا عن مرور هواتف خليوية والحواسيب والتلفزيونات وحتى اللواقط.
فما جرى فـي سجن روميه يدخل ضمن استكمال تنفـيذ الخطة الأمنية كما أكّد الوزير المشنوق، الذي قال أن الأسطورة انتهت، لتعود الدولة لتفرض هيبتها التي فقدتها، بأنها عاجزة عن إدارة سجن والسيطرة عليه، فكيف لمسؤولين فـيها سيبنون دولة وينفّذون القانون، ويؤمنون الهيبة للسلطات الأمنية والقضائية.
إن تفجير جبل محسن المزدوج، مرّ على لبنان دون أن يحدث إرتدادات أمنية ويزعزع الإستقرار ويستولد الفتنة ، ويقضي على الحوار الذي بدأ بين «تيار المستقبل» و«حزب الله»، والهدف منه هو منع وقوع الصراع المذهبي، واستثماره فـي خطاب سياسي هادئ، وكان من أولى نتائجه الإيجابية سياسياً وأمنياً، أن المواقف جاءت موحدة على استنكار ما حدث، والتضامن مع أهالي ضحايا التفجير، وتوجيه الإتهام الى «داعش» و«النصرة»، دون أن يتم تبرير ما حصل، كما كان يجري فـي السابق عندما كان ينبري مسؤولون فـي «المستقبل» و 14 آذار، الى تحميل «حزب الله» مسؤولية كل اهتزاز أمني، لقتاله فـي سوريا، حيث تمّ تحييده، والإعلان عن مَن قام بالعمل الإرهابي هو تنظيم «داعش» كما أعلن الوزير المشنوق الذي توقّع إختراقات وتفجيرات أمنية.
Leave a Reply