ليست هذه المرّة الأولى التي يعتلي فيها بنيامين نتنياهو منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة بحثاً عن تأييد دولي لحروب لا تبدو إسرائيل جاهزة لخوضها، برغم سيل التهديدات الصادرة عن مسؤوليها، التي تزعم «الجهوزية الكاملة».
قبل ست سنوات، وخلال إلقائه كلمته في الأمم المتحدة، أخرج نتنياهو صورة لقنبلة ذات فتيل، ورسم خطاً أحمر أسفل رقعة مكتوب عليها «المرحلة النهائية» لصنع القنبلة النووية، قائلاً إنه عند هذا الحدّ، ستكون 90 بالمئة من الخطوات المطلوبة لحيازة إيران قنابل نووية قد اكتملت، وإنه ينبغي على العالم أن يتحرّك لمنعها من ذلك.
ما حدث بعد ذلك معروف للجميع. فقد «تحرّك» العالم بالفعل، وإنما في الاتجاه المعاكس لتحريض نتنياهو، فكان أن تسارعت الخطوات باتجاه التوافق على «تسوية فيينا» النووية، التي لم تفلح كل الضغوط الإسرائيلية المباشرة وغير المباشرة في وقفها.
قبل أشهر، اختار نتنياهو منبراً دولياً آخر للاستعراض، خلال مشاركته في مؤتمر ميونخ للأمن في شباط الماضي، أمسك بيده قطعة من حطام طائرة إيرانية أعلنت تل أبيب إسقاطها في الجولان، متوجهاً إلى وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف بالقول: «هل تعرف ما هذا؟ يجب أن تعرف، إنها لك… يمكنك أن تأخذ معك رسالة إلى الطغاة في طهران: لا تختبروا عزم إسرائيل»، لكنه لم يجرؤ على القول حينها، إنّ الردّ على «الرسالة» الإسرائيلية حدث فعلاً، وفي اليوم ذاته من إسقاط الطائرة الإيرانية، يوم تمكنت الدفاعات الجوية السورية من توجيه ضربة موجعة لسلاح الجو الإسرائيلي، بإسقاطها طائرة «أف–16».
بعد ذلك بشهرين، خرج نتنياهو مجدداً ليصب هجومه على إيران، متحركاً أمام شاشة عرض كبيرة وإلى جواره مجموعة من الوثائق والملفات المتراصة داخل مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب، للحديث عن «مشروع عماد النووي»، انطلاقاً من «نسخ طبق الأصل» لوثائق حصلت عليها المخابرات الإسرائيلية (الموساد) من مخزن سري في طهران، زاعماً أنها تكشف خطط إيران لإنتاج قنابل نووية.
لعلّ المفارقة في ذلك أن هذه الاستعراضات استقبلت بفتور، حتى في الداخل الإسرائيلي، إذ تمّ التشكيك بها حتى على مستوى مسؤولي «الموساد» السابقين، فيما لم يتأخر رد الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتكذيب نتنياهو حين أكدت أنها «لا ترى أي مؤشر له مصداقية عن وجود أنشطة في إيران على ارتباط بتطوير قنبلة نووية».
بالأمس، أعاد نتنياهو الكرّة بشأن إيران، وهو دفع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى التحرّك مجدداً لإصدار نفي قاطع بشأن أنشطة إيران النووية، وهو ربما ما كان متوقعاً من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه، على النحو الذي دفعه إلى البحث عن نقطة أخرى للتصويب عليها، بالأسلوب الاستعراضي ذاته، الذي قاده إلى إبراز خريطة «منشآت الصواريخ» التي قال إن «حزب الله» أقامها بجوار مطار بيروت الدولي، وما أعقبها من سيل تهديدات بتوجيه ضربة إلى لبنان.
إذا كان كلام نتنياهو عن إيران مكرراً ومجترّاً، فإنّ كلامه عن لبنان يبدو أكثر جدّية، ليس لما تضمنه من تهديدات، تدرك إسرائيل قبل غيرها أن تنفيذها لن يكون نزهة، وإنما في أبعاده الاستراتيجية، وما يعكسه من جهود إسرائيلية لفرض قواعد اشتباك جديدة.
وصول «أس–٣٠٠»
لا يمكن، بطبيعة الحال، فصل هذه الجهود الإسرائيلية، عمّا شهدته الفترة الماضية من تحرّكات على المستوى الميداني والسياسي في سوريا، خصوصاً بعدما عكست تفاهمات سوتشي بين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين بشأن إدلب، من توافق عام، على أن الدولة السورية باتت قريبة من ترميم كل ما لحق بها من خراب خلال السنوات الثماني الماضية، على النحو الذي تنظر إليه إسرائيل بمستوى استراتيجي، وهو أن عودة سوريا لتكون «دولة مواجهة» –أقلّه من حيث الشكل– باتت مسألة وقت قصير.
ولكنّ ثمة عنصراً آخراً، أكثر آنية، يدفع إسرائيل للبحث عن سبل فرض قواعد اشتباك جديدة، وهو يتمحور حول التطوّرات المتصلة بحادثة إسقاط طائرة «إليوشين–20» الروسية في الأجواء السورية، والذي حمّلت فيها روسيا، إسرائيل «المسؤولية الكاملة»، متخذة سلسلة خطوات، كردّ على هذا الاستفزاز الجوي، أهمها على الإطلاق تزويد سوريا بمنظومة «أس–300» المتطورة، وربط الدفاعات الجوية السورية بمنظومة الرصد والتشويش الروسية.
يُجمع الخبراء العسكريون على أن خطوة كهذه تعني أن الأجواء السورية باتت مقفلة بالكامل أمام المقاتلات الإسرائيلية. صحيح أنّ خبراء إسرائيليين يعتقدون بقدرة إسرائيل –نظرياً– على تجاوز هذه المنظومة الدفاعية، أو حتى ضربها، بأشكال عدّة، إلا أن هؤلاء أنفسهم يؤكدون أن خطوة كهذه مستبعدة، لأنّ إسرائيل ستدخل في هذه الحالة في مواجهة مباشرة مع الروس، وهو ما يدفع المعلقين الإسرائيليين إلى التعامل باستخفاف مع تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بأن الطائرات الإسرائيلية ستواصل ضرباتها في سوريا.
وعلى نحو موازٍ، فإنّ الدوائر السياسية والعسكرية والأمنية في إسرائيل، وبحسب ما سرّب للإعلام، تبدي خشية كبيرة من أن تؤدي الخطوة الروسية إلى إفساح المجال لإيران و«حزب الله» لتسريع عمليات نقل الأسلحة إلى لبنان، وهو أمر يمكن النظر إليه في سياق منطقي، بصرف النظر عن الاتهامات الإسرائيلية.
سيناريوهات
على هذا الأساس، يمكن القول إن التهديد الإسرائيلي من البوابة اللبنانية يأتي كردّ فعل مباشر على معادلة «أس–300»، ومحاولة اختبارها في مرحلة ما بعد تسليم هذه المنظومة الدفاعية للجيش السوري.
وبشكل عام، يمكن افتراض أربعة سيناريوهات لاختبار كهذا:
– السيناريو الأول، أن تعمد إسرائيل إلى تنفيذ غارات جديدة على سوريا، في تحدٍّ فظ للروس، وهو سيناريو أقل ترجيحاً، لأنّ التداعيات في هذه الحال ستكون خطيرة، فإذا ما قرّر السوريون – بمبادرة خاصة أو بقرار روسي – تفعيل منظومة «أس–300»، فستشكل هذه، النهاية الفعلية لمرحلة استباحة الأجواء السورية.
– السيناريو الثاني، أن تحاول إسرائيل التوصل إلى تفاهمات مع الجانب الروسي بشأن التنسيق المسبق لضربات تستهدف «شحنات سلاح» مرسلة من إيران إلى «حزب الله»، وهو ايضاً سيناريو ضعيف الترجيح، لأنّ الروس لن يكونوا مستعدين للقبول بما من شأنه تقويض الثقة في علاقتهم مع حلفائهم، ولا المخاطرة بسمعة «أس–300»، التي تعد واحدة من درر الصناعات الدفاعية الروسية.
– السيناريو الثالث، أن تعمد إسرائيل إلى تنفيذ ضربات على سوريا انطلاقاً من الأجواء اللبنانية، أي دون دخول المجال الجوي السوري، وهو أمر ينطوي على مقامرة كبرى، خصوصاً في ظل التلميحات الروسية بأن مجال منظومة «أس–300» يمكن أن يمتد إلى أجواء لبنان (وهو ما ألمح إليه على سبيل المثال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو حين تحدث عن مدى تلك الصواريخ المقدر بنحو 275 كيلومتراً).
– أما السيناريو الرابع، وهو الأكثر ترجيحاً، والأكثر تفسيراً للتهديدات الإسرائيلية للبنان، فيتمثل في اختبار معادلة «أس–300» في الميدان اللبناني باعتباره خاصرة رخوة، خصوصاً إذا ما تمكنت إسرائيل في حشد دعم دولي لغارات موضعية تستهدف «شحنات سلاح موجهة إلى إرهابيين»، على حد قولها، مستخدمة شعار «الدفاع عن النفس».
ولكنّ السيناريو الرابع هذا ليس سهلاً، فإسرائيل تدرك جيّداً أن توجيه ضربة للبنان سيعتبر انتهاكاً لكل الخطوط الحمراء التي أفرزتها حرب تموز العام 2006، وهي ستخاطر بذلك في دفع الأمور باتجاه حرب شاملة، خصوصاً إذا ما اختار «حزب الله» تطبيق معادلة الردع الاستراتيجي.
وبالرغم من أن خياراً إسرائيلياً من هذا القبيل ليس مستبعداً، فإنّ قرار الحرب في هذه الحالة يفترض أن يكون الخيار الأخير بالنسبة إلى الإسرائيليين، وعلى هذا الأساس، فإنّ اتخاذه يبقى رهناً بحملة ضغوط، بدأتها إسرائيل بالفعل، لترميم ردعها المتآكل.
وأمّا الخطوط العريضة لهذه الحملة، فهو التهديد بضرب لبنان، ما لم يتم التوصل إلى تفاهمات جديدة مع الروس، سواء للضغط على إيران و«حزب الله» لمنع أيّ تدفق محتمل للسلاح إلى لبنان عبر الأراضي السورية، أو لمنحها «الضوء الأصفر» لتنفيذ غارات موضعية تحت عنوان «حماية أمنها».
ومع ذلك، فإنّ الوقائع الجديدة على الأرض تشي بمأزق مزدوج لم تشهده إسرائيل يوماً في تاريخها، فالمعادلة القائمة اليوم تجعل روسيا الطرف الأقوى في سوريا، وحتى في لبنان، وبالتالي فإنّ حقبة فرض الأمر الواقع من قبل إسرائيل قد ولّت، ما يعني أن ثمة تنازلات كبرى ينبغي على تل أبيب تقديمها لموسكو من أجل التوصل إلى تفاهمات جديدة، قد تصل إلى حد الموافقة على «مظلة» دفاعية روسية للأجواء اللبنانية، كثمن لهذه التفاهمات.
أما قرار الحرب، فدونه عقبات، ذلك أن التقديرات الاستراتيجية تفيد بأنّ إسرائيل قد تفتقد إلى ضوء أخضر أميركي لحرب على لبنان، خصوصاً أن واشنطن باتت على يقين بأنّ حرباً كهذه ستشكل فرصة إضافية لانخراط موسكو في المعادلات الشرق أوسطية… على نحو قد يجعل روسيا الرابح الوحيد من مغامرة كهذه.
Leave a Reply