نبيل هيثم
مرّة جديدة تغامر الولايات المتحدة بمصير الشرق الأوسط، وربما العالم بأسره.
خطاب الحرب ضد إيران يواصل السير في مسار تصاعدي، لا يمكن حتى الآن، تحديد نقطة الذورة فيه، والتي قد تقود إلى حرب شاملة في لحظة غير محسوبة.
بات واضحاً أن التطورات التي شهدتها العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وإيران خلال الأيام القليلة الماضية هي الترجمة العملية لاستراتيجية انتخابية يسعى من خلالها دونالد ترامب، للهروب إلى الأمام من قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران، حتى وإن تطلّب الأمر السير في حقول مزدحمة بالألغام وبراميل البارود القابلة للانفجار في أي وقت.
عملية تخريبية
ضمن هذا السياق، يمكن فهم «التخريب» الغامض الذي استهدف ناقلات النفط في مياه الإمارات، والهجمات «الجوية» على المنشآت النفطية السعودية، والتي جاءت لتطرح تساؤلات جدّية حول احتمالات انفجار الشرق الأوسط، خصوصاً أن ثمة قناعة راسخة بأن تصميمها قد استهدف بالفعل إثارة تصعيد جديد، وإن كان من غير الواضح من يقف وراءها.
ما جرى في الإمارات كان تكراراً لسنياريوهات أميركية سابقة، لا بل يمكن وصفه بأنه مشهد من «فيلم أميركي طويل»: في الخامس من أيار، فوجئ العالم بتقارير صحافية تتحدث عن عدة انفجارات في ميناء الفجيرة الإماراتي وذلك بعد اندلاع حريق، اجتاح العديد من ناقلات النفط. ومع أن السلطات الإماراتية أوضحت بسرعة أنه لم تحدث انفجارات أو حريق كبير في الميناء النفطي، إلا أنها عادت وتحدّثت عن «عمليات تخريب»، وذلك في بيان رسمي، استُتبع بإعلان سعودي، على لسان وزير النفط خالد فالح، بأن اثنتين من السفن المستهدفة كانتا ناقلتي نفط سعودية.
وبرغم عدم وجود أي مؤشر مباشر، حتى الآن، على المسؤول عن «عمليات التخريب» في الفجيرة، إلا أن ترامب، وعلى طريقة سلفه جورج بوش، أطلق اتهاماً شبه مباشر ضد إيران، حين قال إنها ستعاني من «مشكلة خطيرة» إذا قررت مهاجمة أي ناقلات نفط في الشرق الأوسط.
بطبيعة الحال، فإنّ من صمم هذا الهجوم يدرك بأنّ احتواء تداعياته أمر ممكن، خصوصاً بعدما أكدت الإمارات أن «عمليات التخريب» لم تؤدِ إلى إصابات بشرية ولا حتى إلى خسائر مادية كبيرة.
هكذا كان ضرورياً إكمال السيناريو التآمري، على خطين: الأول سعودي، مع الإعلان عن استهداف منشآت نفطية داخل المملكة بطائرات مسيّرة، والثاني عراقي، مع الإعلان عن «تهديد وشيك» يتهدد القوات الأميركية على أرضه.
التهمة جاهزة والمتهم أيضاً عند الأميركيين: بما أن إيران تشعر بثقل العقوبات وحظر النفط، فسيكون من المقدر أن تختار بين طريقين: المفاوضات الدبلوماسية (التي يدعو إليها ترامب تحت نير العقوبات) أو المواجهة المفتوحة التي لا يستبعدها ترامب، والتي قد تبدأ بعمليات عسكرية محدودة وتوتير الوضع في الممرات المائية، وصولاً إلى إغلاق مضيق هرمز (الخط الأحمر الأميركي).
تصعيد أميركي
سيناريو التصعيد كان المحرّك بالفعل لسلسلة قرارات أميركية، كان أخطرها اثنان: الأول، تصنيف «الحرس الثوري» الإيراني منظمة إرهابية، في خطوة لم يجرؤ أي رئيس أميركي سابق على اتخاذها، بالنظر إلى تداعياتها الخطيرة المحتملة؛ والثاني إعلان مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون أن الولايات المتحدة اتخذت قراراً بنشر مجموعة الضربات الجوية بالقرب من إيران، والتي تضم قاذفات «بي 52» وأنظمة الدفاع الصاروخي باتريوت ونظام النقل البحري «أرلينغتون» في الشرق الأوسط.
ثمة من يضع هذه التحركات يما فيها تشديد العقوبات على قاع التعدين في إيران، ضمن إطار «الحرب النفسية». وقد يكون ذلك صحيحاً من الناحية الواقعية، لكن اختيار ثلاث نقاط حساسة، كالعراق والسعودية والإمارات، لتصعيد التوتر، يجعل الأمور أكثر تعقيداً.
توتر إقليمي
في العراق، لا يزال الأميركيون يعتبرون أن بلادهم هزمت هناك، يوم قرر باراك أوباما الانسحاب، خصوصاً بعدما ذهبت خطط جورج بوش أدراج الرياح، نتيجة للضربات الموجعة التي سددتها المقاومة العراقية (إخفاق عسكري)، وتنامي النفوذ الإيراني في هذا البلد (إخفاق سياسي).
وفي السعودية، يمكن اعتبار أيّ استهداف لمنشأة نفطية تهديداً مباشراً للأمن القومي الأميركي، خصوصاً أن قطاع النفط يشكل المحرّك الأساس في العلاقات الأميركية السعودية بشكل عام، وللمصالح الأميركية في الشرق الأوسط على نحو أكثر اتساعاً.
أما في الإمارات، فإنّ «عمليات تخريب» تستهدف ناقلات نفطية يكتسب منحى أكثر خطورة، إذ يمكن وضعه في إطار التهديد للأمن العالمي، خصوصاً أن ثمة من بدأ يتحدث عن اختراق خطير للأمن الخليجي، خصوصاً أن الهجمات استهدفت مسارات بديلة لشحنات النفط تتفادى مضيق هرمز، فميناء الفجيرة يعد أحد مرافئ خط أنابيب النفط الخام القادم من حقول حبشان في أبوظبي، أما خط شرق-غرب السعودي فينقل النفط الخام من الحقول الشرقية إلى ميناء ينبع شمالي باب المندب، مع الإشارة إلى أن الأميركيين يرون أن إغلاق المضيق سيكون بمثابة تجاوزاً لـ«الخط الأحمر».
دور إسرائيلي
ثمة جانب دقيق وخطير لما حدث في الإمارات، وقد سعى الأميركيون إلى التكتّم عليه، أو التقليل من أهميته، بعدما كشفت تسريبات صحافية عن أن مسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى أبلغوا جون بولتون بمؤامرة إيرانية مزعومة لمهاجمة أهداف أو حلفاء الولايات المتحدة في منطقة الخليج.
لعل قيام الإسرائيليين بتسليم ما يسمى بالمعلومات الاستخباراتية، وتزامن ذلك مع الهجمات المشبوهة، يجعل من المنطقي توجيه أصابع الاتهام (كما فعلت إيران) إلى إسرائيل، التي تمتلك الكثير من الأسباب لتنفيذ عملية أمنية على هذا القدر من الخطورة ومحاولة التغطية عليها بتقديم «معلومات زائفة» للأميركيين.
قد تبقى ملابسات ما حدث لغزاً معقداً لسنوات طويلة، لكنّ الثابت أن ثمة نية فعلية للتصعيد الذي بات يدور حوله الكثير من الجدل في الولايات المتحدة، ما يطرح تساؤلات جدية حول المستقبل.
قبل أيام ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن القائم بأعمال وزير الدفاع الأميركي باتريك شاناهان قدم خطة عسكرية الأسبوع الماضي لإرسال 120 ألف جندي إلى الشرق الأوسط في حالة قيام إيران بمهاجمة القوات الأميركية أو في حال قررت تسريع تطوير برنامجها النووي. ومع ذلك، تجاهل الرئيس الأميركي التقرير، واصفاً إياه بأنه «أخبار مزيفة»، من دون أن يستبعد سيناريو نشر «قوات أكبر بكثير» في الشرق الأوسط.
حرب غبية
هل اختار ترامب إذاً خطاب الحرب؟ حتى الآن لا يمكن الجزم بشيء، فالتحركات الأميركية قد تكون مجرد «حرب نفسية» تهدف إلى الضغط على إيران التي ما زالت قادرة على مقاومة العقوبات.
ما يعزز وجهة النظر هذه أن المناخ العام في الشرق الأوسط والعالم عموماً غير مهيأ لمغامرة أميركية جديدة، فمنذ حرب العراق عام 2003 ، فقدت الولايات المتحدة شرعيتها في شن حروب أحادية الجانب ضد دول أخرى لأن المجتمع الدولي لم يعد قادراً على إقناع نفسه بالذرائع الأميركية.
دول الخليج نفسها ستكون أكثر تحفظاً في الانجرار نحو حرب كارثية، لأنها ستكون المستهدف الأول بالصواريخ الإيرانية.
الأهم مما سبق أن الهدف الاستراتيجي الوحيد لأية حرب محتملة ضد إيران هو الاستيلاء على طهران، بهدف إسقاط النظام في الجمهورية الإسلامية – دون هذا لن يستطيع ترامب الحديث عن إنجاز، ما يعني أن الحديث سيدور حول حرب طويلة، لم تعد الولايات المتحدة قادرة على تحمّل مثلها، بسبب الرأي العام والنفقات الاقتصادية والخسائر البشرية.
يضاف إلى ما سبق أن ثمة عوائق استراتيجية وتكتيكية ستحول دون الحرب، وهو ما يندرج ضمن تساؤلات بدأ يطرحها خبراء عسكريون أميركيون من قبيل: كيف يمكن القيام بغزو بري انطلاقاً من الخليج خصوصاً أن المسافة بين مضيق هرمز وطهران أكثر من 1200 كيلومتر. وإلى أي مدى يمكن تحييد الصواريخ الإيرانية القادرة على الوصول إلى أي هدف في الشرق الأوسط، بما في ذلك إسرائيل؟ وهل سيبقى حلفاء إيران في الشرق الأوسط ساكنين في حال سلكت الولايات المتحدة طريق الحرب؟
يقود ذلك إلى قناعة راسخة حتى عند أكثر الاميركيين تشدداً، وهي أن الكل سيخرج خاسراً من حرب كهذه، وبالتالي فإنّ الذهاب إليها سيكون خياراً غبياً… ولكن ثمة من يعتقد عكس ذلك، فحين يكون في البيت الأبيض أمثال جون بولتون فلا شيء مستبعد!
Leave a Reply