يُعرف عن «الجنبلاطية السياسية»، منذ كمال جنبلاط، أنها لا توالي العهود الرئاسية حتى ولو ساهمت بإيصال الرؤساء إلى سدة الحكم. هذا ما حصل منذ الاستقلال في العام 1943، وفي عهد أول رئيس للجمهورية بشارة الخوري، الذي عارضه جنبلاط وانقلب على الكتلة الدستورية التي كان الخوري رئيسها، ثم مع كميل شمعون حليفه في «الجبهة الوطنية الاشتراكية»، وهو ما فعله أيضاً مع الرئيس فؤاد شهاب وبعده شارل حلو وصولاً إلى سليمان فرنجية الذي وزّع جنبلاط أصوات كتلته بينه وبين الياس سركيس، الذي عارض انتخابه في العام 1976 لصالح ريمون إدّه قبل اغتياله في منتصف آذار (مارس) 1977.
وليد على خطى أبيه
لم يخالف وليد جنبلاط، الذي ورث الزعامة الجنبلاطية، النهج الجنبلاطي. إذ جرت انتخابات رئاسية أثناء الحرب الأهلية، بعدما اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1982، وفرضت بشير الجميّل –حليفها– رئيساً للجمهورية، قبل اغتياله في 14 أيلول (سبتمبر) من العام نفسه ليخلفه شقيقه أمين. فأقنع المبعوث الأميركي فيليب حبيب، جنبلاط بتأييد عهد أمين الجميّل وهذا ما فعله إلى أن صعدت «القوات اللبنانية» إلى الجبل، وبدأت الانتقام والثأر من أبناء الطائفة الدرزية، فلجأ جنبلاط إلى سوريا التي أمّنت له الدعم عسكرياً، وأرسته أميراً على الجبل بعد إسقاط «اتفاق 17 أيار» بين النظام اللبناني برئاسة الجميّل والعدو الإسرائيلي، وانخرط «الحزب التقدمي الاشتراكي» في معركة إسقاط عهد الجميّل، ليدخل لبنان بعد اتفاق الطائف مرحلة السلام.
عودة المهجرين
مع توقف الحرب الأهلية، وإرساء اتفاق الطائف للسلام والأمن في لبنان وحلّ الميليشيات، طلب جنبلاط من وزارة المهجرين، للإشراف على عودة مَن نزح من أبناء الجبل المسيحيين، ومعالجة قضايا المقيمين من الدروز الذين صادروا وسكنوا بيوت المسيحيين كما أرضهم. وأصرّ رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» على تسلم وزارة المهجرين بعد أن تولاها في حكومة رشيد الصلح إيلي حبيقة، أحد رموز المنطقة الشرقية وقائد «القوات اللبنانية» آنذاك، وشريك جنبلاط في «الاتفاق الثلاثي» مع رئيس «حركة أمل» نبيه برّي، وهو الاتفاق الذي أسس لوقف الحرب، لكن سمير جعجع قاد انقلاباً على حبيقة وأخرجه من قيادة «القوات اللبنانية» والمنطقة التي كانت تُعرف بـ«الشرقية»، بالتحالف مع أمين الجميّل الذي أبلغ الرئيس السوري حافظ الأسد، معارضته لـ«الاتفاق الثلاثي» لأنه خارجه.
المصالحات
وضع جنبلاط كوزير للمهجرين خطة لإعادة العيش المشترك إلى الجبل، إذ كانت العودة بطيئة، لاسيما في البلدات التي شهدت مجازر سواء إثر اغتيال كمال جنبلاط عام 1977، أو في أثناء حرب الجبل، وكانت البداية من مزرعة الشوف والباروك ومعاصر الشوف وامتدت إلى كفرمتى وعبيه وبعورته في الشحار الغربي، وكان يواكب هذه المصالحات رئيس الجمهورية الياس الهراوي، لكنها لم تعزز عودة المسيحيين إلى الجبل، بالرغم من أن الصندوق المركزي للمهجرين دفع آلاف المليارات لتأمين العودة وإعادة بناء المنازل المهدمة وترميم ما هو قائم، إذ كان الخوف مسيطراً لعودة لا سقف سياسياً لها.
البطريرك صفير راعي المصالحة
منذ العام 1990، بدأت العودة خجولة إلى الجبل، إلى أن رأى جنبلاط، بأنه لا بدّ من دعم كنسي لها، وليس سياسياً فقط، فاتفّق مع البطريرك نصرالله صفير على أن يرعى مصالحة سماها جنبلاط «تاريخية» في الجبل، بعد أن حجب الرئيس إميل لحود ملف المهجرين عن جنبلاط الذي أمسك به ومعه الورقة المسيحية في الجبل منذ العام 1992، حيث أسندت إليه وزارة المهجرين، واستثنيت محافظة جبل لبنان أن تكون دائرة واحدة في أول انتخابات نيابية بعد توقف الحرب، لتقسّم إلى أقضية تخدم مصالح جنبلاط الانتخابية، ففاز بكتلة نيابية كبيرة، قبل أن ينقلب على السوريين عقب انتخاب إميل لحود رئيساً للجمهورية، رافضاً الامتثال لرغبة دمشق بانتخاب قائد الجيش الذي شكل ضمانة للمقاومة منذ توليه قيادة الجيش، وتعميم معادلة «الجيش والشعب والمقاومة» التي حققت انتصارات كبرى في تحرير الأرض عام 2000 والصمود بوجه العدوان الإسرائيلي عام 2006.
المشروع الأميركي
بدأ تحول جنبلاط السياسي، عندما بدأ يلوح مشروع أميركي للمنطقة تحت اسم «الشرق الأوسط الجديد»، فانخرط مع ما يسمى «لقاء قرنة شهوان» الذي رعاه صفير للمطالبة بانسحاب القوات السورية من لبنان، وهنا بدأ الافتراق عن دمشق، حيث عزّز جنبلاط تحالفه مع صفير الذي كان رأس حربة ضد الوجود السوري، فجاءت مصالحة الجبل، لتكريس تحالف «درزي–ماروني» بغطاء سنّي يمثله الرئيس سعد الحريري الذي أرسل مَن يمثّله في «لقاء البريستول» برعاية السفير الأميركي في لبنان جيفري فيلتمان، الصديق لجنبلاط الذي قرّر حينها أن يواجه النظام السوري من خلال حلفاء جدد كـ«القوات اللبنانية»، و«الكتائب» و«الوطنيون الأحرار» و«الكتلة الوطنية» وشخصيات مسيحية مناهضة للوجود السوري.
اغتيال الحريري
على وقع هذه التطورات والتمديد للرئيس لحود بقرار سوري، انبرى جنبلاط لقيادة تكتل ضد الوجود السوري بغطاء من القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، ثم باغتيال الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005، ليعلن الرئيس الأميركي جورج بوش قيام «ثورة الأرز» في لبنان، من ضمن «الثورات الملونة» التي أطلقت في العالم خلال تلك الحقبة، عبر إنشاء تحالف قوى وأحزاب معارضة لسوريا، بهدف نزع سلاح «حزب الله».
سرّع اغتيال الحريري بانسحاب القوات السورية، ولكن مطلب نزع سلاح المقاومة تولت إسرائيل تنفيذه بشن عدوان تموز 2006، لضرب «حزب الله» وفرض الاستسلام عليه، لكن العدوان فشل، وسقط المشروع الأميركي في لبنان، وانقلبت موازين القوى لصالح محور المقاومة و«8 آذار».
تحوّل عون السياسي
وكانت المفاجأة، أن العماد عون أقام تفاهماً مع «حزب الله» في 6 شباط 2006، وصمد معه أثناء العدوان الإسرائيلي، ثم زار سوريا في العام 2009، بعد أن تمكّن «حزب الله» مع حلفائه من حسم المعادلة الداخلية في 7 أيار 2008، لكن مجيء عون إلى رئاسة الجمهورية تأخر بانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. فارتاح جنبلاط، وبدأ يقلب تحالفاته، فعاد إلى سوريا، وانقلب على الحريري، عندما فُرضت عليه استقالة حكومته مطلع عام 2011، وارتبك جنبلاط الذي أيّد وصول نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة، ثمّ تمام سلام من بعده، إلى أن حصلت التسوية الرئاسية، فدخلها مرغماً، بعد أن رأى في سليمان فرنجية مخرجاً، لأن وصول عون إلى رئاسة الجمهورية بما لديه من تيار سياسي واسع لاسيما بين المسيحيين، سيؤثّر عليه، لكنه انتخبه على مضض، للتخفيف من الخسائر.
عودة الصراع على الجبل
ومع الانتخابات النيابية الأخيرة، ظهر الصراع مجدداً على الجبل،حيث عادت القوى الحزبية المسيحية كـ«القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر»، فرأى جنبلاط أنه قد يخسر مقاعد مسيحية، فحاول التحالف مع «التيار الوطني الحر» ففشل.
أفرزت الانتخابات ثلاثة نواب موارنة «للتيار الوطني الحر» في عاليه والشوف، وهو ما أثار هواجس رئيس الحزب «الاشتراكي»، لاسيما بعد قيام تحالف عوني–إرسلاني، أسفر عن تشكيل كتلة نيابية لطلال إرسلان، الذي أخذ يطالب بمقعد وزاري، مدعوماً من رئيس الجمهورية الذي أكد رفضه لاحتكار التمثيل الطائفي بأي حزب سياسي، ودعمه في ذلك باسيل كرئيس لـ«تكتل لبنان القوي».
هكذا بدأ جنبلاط يقلق من العودة إلى مرحلة كميل شمعون، والصراع الذي نشأ بينه وبين والده وما نتج عنه من إسقاط شمعون لكمال جنبلاط في انتخابات عام 1957، وفوز قحطان حماده بالمقعد النيابي، فاستحضر وليد جنبلاط هذا المشهد وأعلن أن المختارة مستهدفة، كما أن عهد عون يعمل لتحجيمه وإعادة تكوين الزعامة الإرسلانية في وجهه، مطلقاً موقفه الشهير بأن «العهد فاشل» منذ أن انتخب عون، لتشتعل حرب مواقف وبيانات من نواب الطرفين ووزرائهما، وصولاً إلى تطهير موظفين محسوبين عليهما من إدارات الدولة، وارتفاع منسوب التوتر مع نبش قبور الحرب واستحضار كل طرف ما حصل، حيث كادت لوحة لمقاتل اشتراكي شارك في «حرب الجبل»، أن توقع مناوشات في بلدة كفرنبرخ، وقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي بتأجيج الخلافات وحقن الشارع، فحصلت توترات في بعض المناطق دون أن تؤدي إلى صدامات، ولكنها تنذر بفتنة، سارع رئيس «الاشتراكي» إلى تداركها بطلب التهدئة فبادله «التيار الوطني الحر» الموقف، وعُقدت اجتماعات بين الطرفين، دخل على خطها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، الذي طلبه الطرفان لرعاية اللجنة المشتركة بينهما، والتي أكّدت على أن الأمن خط أحمر، والمصالحة في الجبل من الثوابت، وتمّ فصل الخلاف السياسي عن أي ارتباط بالأمن، وقد نجحت المساعي في التهدئة، ليبقى الصراع ضمن حدوده السياسية بعيداً عن شبح الفتنة الطائفية.
Leave a Reply