الخـــط دا خــطـي والكــلـمــة دي لِـيّا
غـطّي الـورق غطّي بالدمـع يا عِـنيـّا
شـط الزتـون شطـّي والأرض عربيـة
نسايمها أنفـاسي وتــرابـها مـن ناسـي
وإن رحت أنا ناسي ما تنسانيش هـي
أحمد فؤاد نجم
الحرية ووعي التغيير:غياب التدبير
«هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية» جملة اطلقها مواطن تونسي بسيط اسمه احمد الحفناوي جابت العالم وأصبحت رمزا لبداية عهد التحرر من الإستبداد وشعاراً يرفع في جميع الساحات الثورية تماما كما شعار «الشعب يريد اسقاط النظام» الذي أطلقته الجماهير الهادرة في شوراع تونس وأصبح النشيد الوطني للثوار. جمل بسيطة في تركيبها عميقة الدلائل في معانيها، هكذا صدع المُكَبَلون بسنوات من العسف والفساد مُعلنين لحظة التحرر في شوارع تونس ، وإيذانا بيقظة شعوب المنطقة العربية وإنعتاقها من أنظمة إستبدادية وتابعة حوّلت أغلب شعوب المنطقة العربية ذات حضارات الستة آلاف عام إلى أكوام من البشر لا حول ولا قوة لهم أمام ماكينات قمع رهيبة ونظم أزكم فسادها الأنوف.
كان تفكير الشعب التونسي كما في أغلب الأقطار العربية الأخرى مُنصَباً حول كيفية التخلص من الكابوس الجاثم على الصدور ويكاد يقطع الأنفاس، والذي رمزه بن علي و«عائلته المالكة». لقد اكتوى الشعب التونسي حتى استوت عنده الحياة والموت ولم يكن عنده وقت للتفكير في أبعد من الحرية، لم يكن هناك وقت للتفكير في ما يلي الثورة، ولم يكن هناك يقين بأنّ نظام بن علي سينهار بسرعة بعد أوّل تحركات الشارع، ممّا أثار استغراب الجميع إلاّ أنّ هروب الرئيس لم يفاجئ من عاشوا تلك الملحمة.
لقد أدرك بن علي أن لا أمل له في البقاء بعد سقوط جدار الخوف لدى التونسيين واستمرار تظاهرهم في الشوارع موحدين ضدّه دون تراجع أو خوف من الرصاص رغم قتله المئات منهم لذلك هرب على عجل مخلفا وراءه تركة ثقيلة لمن سياتي بعده.
أيّ نظام نريد إذا سقط النظام؟ وماهي مقاييس الأحقية بالحكم؟ أسئلة لم تفكر فيها أغلب الشعوب ممّن خرجوا إلى شوارع تونس وإلى أغلب الشوارع العربية عاري الصدور ولم يكن لهم إلاّ هدف واحد وهو كسر الأغلال وبعدها يحلّها «ألف حلاّل».
«بن علي هرب.. المجرم هرب» هكذا صاح عبد الناصر لعويني، محام تونسي، صيحات دَوَّت في الشارع مُعلنة سقوط أوّل الأنظمة العربية الفاسدة عبر ثورة شعبية عارمة. بعد هروب بن علي وَاجَه الشعب التونسي خاصّة سؤال: ماذا بعد التحرر من الإستبداد؟ وهو سؤال سيكون أقلّ حدّة في بقية مشاريع الثورات العربية لأنّ الجهات التي تقف وراء تحويل وجهتها قد أجابت عن مصير ما بعد الثورة وخططت لمستقبل شعبها ولمسارها عبر بدائل «ثورية» سوقت لها إعلاميا ثم فرضتها بالقوّة أو في حالات أخرى قامت بتغيير واجهة النظام مع إبقاء مضامينه، لكن الأمر لم يكن كذلك في تونس حيث تحرك الشارع بعفوية وسقط النظام فجأة؟ ويبدو طرح سؤال ماذا بعد؟ غريبا لكنّه في الحقيقة سؤال وجيه لأنّه لم يكن هناك من أحد يملك الجواب عليه، ولم يكن أحد قادر على إدّعاء أنّه صاحب الثورة أو مُفجّرها أو المخطط لها ليجيب. لم تكن الثورة بالإنقلاب العسكري حتى نعلم وجهتها، كما لم تكن ثورة حزب أو أحزاب لها إستراتيجية وتخطيط لكل مراحلها، لقد كانت ثورة أطلقها أغلب الشعب وخصوصا فئاته الشبابية ولم يدَّع أحد أنّه صاحب الشارع وقائده.
بدأ التفكير على عجل في مرحلة مابعد التحرر من الإستبداد ولم يمنع غياب رؤوس قيادية لثورة تونس من ظهور «رؤوس جديدة» ولد بعضها من رحم الثورة وبرز البعض الآخر من خارجها، إنّهم «الألْف حَلاَّل» الذين تحدثنا عنهم والذين سيكونون وراء التأثيث للمشهد السياسي لما سميناه في مقالات سابقة ديمقراطية الكعك أو «الديمقراكعكية»، أي نظام الحكم القائم على المحاصصة، والذي جعل من دولة مثل تونس بتعداد اثني عشر مليون نسمة تؤلّف حكومة من ثمانين وزير ونائب وزير وهو أمر يعكس سياسة الترضية التي وفقها وقع إقتسام « كعكة تونس» لأنّنا لم نشهد لمثل هذا الجيش من الوزراء مثيلاً حتى في الإمبراطوريات العظمى كالإتحاد السوفياتي السابق كما لم تُوَزّر الصين التي يتجاوز تعدادها المليار ونصف المليار نسمة مثل هذا العدد؟
لقد كانت ثورة الربيع في تونس كما في بعض بلدان الربيع العربي، ثورات من أجل الكرامة والإنعتاق ولم تكن ثورات بالمفهوم العلمي أي وفق تخطيط حزب أو جبهة ذات مرجعية فكرية وسياسية متجانسة وأهداف مخصوصة ومراحل معلومة، بل كانت ثورات بلا ايديولوجية ولا رؤوس، كتعبير عن وعي بالظلم والإستبداد حيث إمتلك الشعب في لحظة تاريخية الجراة لإسقاط النظام في مرحلة يمكن ان نسميها مرحلة التحرر من الاستبداد لكنه لم يمتلك البرنامج لما بعد ذلك، لأن ثورته كانت عفوية يعوزها التدبير والتخطيط أي إمتلاك الفعل الثوري الواعي بما يتطلبه التغيير من تحرك وفق مراحل معلومة.
الحزبية والمُوَاطَنَة : الدولة الغنيمة
بعض ثورات الربيع «لم تدبر بليل» أما البعض الآخر فلم تعد الأجندات التي تقف وراءه خافية على أحد إلاّ على من يريد أن يكون شروق الشمس من محل غروبها. لقد كانت ثورة تونس تلقائية قام بها شعب طفح به الكيل ثم تلى ثورة تونس ثورات أخرى إعتقدت بقية الشعوب أنّ ما وقع في تونس ممكن أن يحدث عندهم أو يجب أن يحدث عندهم بنفس الكيفية إلاّ أنّه غاب عليهم أنّ مستويات الوعي تختلف من بلد عربي إلى آخر لذلك تحرك البعض وتأخّر الآخر وليس السبب ما ذهب اليه بعض المتفكهين من أنّ بعض الشعوب العربية «مثل القط بحِبْ خنّاقو» . العفوية وعدم التخطيط لما بعد الثورة وعدم إدّعاء أيّ أحد أنّه صاحبها كان سبباً في دخول مجموعات «طارئة» على الخط لا علاقة لها بإنجاز الديمقراطية أو العمل على تطوير الحريات أو تطوير حياة الفقراء و لم يكن يهمها من « المشاركة » إلاّ نصيبها من الكعكة ليس إلاّ.
كثرت الأحزاب الجديدة بغثها وسمينها وشهدت الساحة السياسية بعد الثورة ولادة «ثوار جدد» ركب الكثير منهم الموجة ونافسوا الأحزاب التقليدية والتاريخية التي كانت موجودة قبل الثورة سواء منها التي كان معترفا بها قانونياً أو تلك التي كانت محظورة وإنكشف المشهد السياسي على تخمة من الأحزاب السياسية الجديدة تجاوز عددها المئة وخمسين حزباً، يحرص أغلبها على تقديم أنفسهم كبدائل ديمقراطية لملء الفراغ الذي أحدثه سقوط النظام البائد.
وقد أفرزت الإنتخابات التي تلت المرحلة الإنتقالية في تونس كما في مصر صعود تيار «الإخوان المسلمين» كأكبر الأحزاب السياسية التي ستقود مرحلة ما بعد الثورة، وقد وُوجِه التيار الحاكم الجديد بمعارضة قوية خاصّة من تيارات اليسار والقوى العلمانية التي كانت ترى في النظام الجديد خطرا على «مكاسب الحداثة والحريات العامة» وتوسّع التجاذب السياسي بدخول بعض المنظمات الحقوقية والنقابية حلبة الصراع، ممّا كثّف الإضرابات وعطّل سير أغلب المؤسسات الإقتصادية والتعليمية الخاصة والعامة، وتحوّلت الهيئات النيابية المنتخبة إلى ساحات ومنابر للجدل والجدال الإيديولوجي بين أحزاب ذات مشارب فكرية وإيديولوجية متناقضة ممّا عطلّ سير إنجاز الدستور وإحداث بلبلة لدى المواطن مع إستمرار الصدامات والمسيرات.
لم تَرْقَ الأحزاب التي حازت ثقة الشعب عبر الصناديق الإنتخابية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار إلى مستوى الوعي باللحظة التاريخية التي كان يعيشها البلد وخطورة مرحلة ما بعد الثورة حيث طغت عقلية «الفرقة الناجية» وإعتبر كل حزب أنّه يمتلك الحقيقية وأنّ الآخر على خطأ ممّا عمّق الهُوّة بين مختلف التكتلات السياسية الكبرى فإنقسم الشارع كنتيجة طبيعية لعملية الإستقطاب السياسي.
كان من المفترض على الأحزاب والتيارات الجديدة التي إعتلت سُدّة الحكم في تونس كما في «دول الربيع» أن تُغلّب مصلحة الأوطان على مصلحة الأحزاب والإيديولوجيات. وكان حريا بالجميع أن يكون شعار «لا صوت يعلو فوق صوت الوطن» شعار مرحلة ما بعد الثورة ويُغلَب حسّ المواطنة والولاء للوطن على حساب التحزّب والحزبية. فالولاء للوطن هو الإطار الأوسع الذي يشمل الجميع ويتسع للكل ، لكن للأسف تغلبت «الغريزة الحزبية» على الحس الوطني لذلك لازالت تونس كما مصر وليبيا يعانون من عدم الإستقرار الذي ولّده الصراع على السلطة ومازالت الجماهير بعد سنتين من الثورة ترابط في الشوارع.
حزمت مصر أمرها واختارت التحصُن بالحزبية فجاءت حكومتها أغلبها من لون واحد ورغم ذلك مازالت مشاكلها لم تحل وأوضاعها الأمنية والإقتصادية تتدهور يوما بعد آخر، أما تونس فرغم فشل حكومة أحزاب «الترويكا» وادراك رئيس الحكومة الذي يقودها أنه لا مخرج من عنق الزجاجة إلاّ بضرورة تشكيل حكومة تكنوقراط وكفاءات غير حزبية كحل للمشاكل التي تزداد تفاقما دون أن تجد حلولا ناجعة، إلاّ أنّه وإلى الآن لم يجد نداؤه آذانا صاغية ومازال التشبث بالحزبية طاغ على ساحة الوطن وعلى الثورة المغلوبة على أمرها.
من الخطير أن يتحول وطن إلى أسير حزب أو أحزاب، ومن الخطير أن تسيطر عقلية الغنيمة على روح الواجب، فيتحول الوطن إلى فريسة أو حق لجماعة أو حزب دون آخر بإسم الشرعية الإنتخابية أو الشرعية الثورية أو أيّ من المبررات الأخرى.
الوطن هو حضن لمواطنيه، مُلك لهم، حاميهم وهم حماته هكذا يحلم الجميع بأوطانهم وهكذا ببساطة يجب أن تكون الأوطان. لكن للأسف صُودرت بعض ثورات الربيع وحُوِلت الى وجهة أخرى أو أغتيلت.. نعم هناك أجندات خارجية لكن لولا الدور الرجعي للقبائل العربية التي تحتكر ثروات الشعوب والتي تتحمل أكثر المسؤولية في إغتيال أحلام العرب، بسبب تشبثها بكراسيها المهترئة يشاركها بعض من اصطنعتهم أو غررت بهم من «الثوار» عديمي الوعي بأهمية التوافق من أجل سلامة الأوطان، وبوجوب أن تكون أجنداتهم وطنية، بسبب أولئك وهؤلاء تموج الشعوب وتدمر أوطان وتتخبط أخرى ممّا جعل اليأس يتسرب ويجد طريقه إلى نفوس كثير من العرب خاصة وهم يشاهدون «إخوة» لهم يصرّون على تدمير كل ما هو جميل في المنطقة وفي حياة شعوبها، لقد زوروا الحقائق وفرقوا الشعوب وموّلوا الخراب والإنقسام وشوّهوا الربيع وإغتالوا ثوراته التي تَفَرّقَ دَمُها بين قبائلهم وذنبها في رقابهم إلى يوم يبعثون.
إنّها شريعة الأعراب.. شريعة أنا وبعدي الطوفان ، تُغرق المنطقة في حروب البسوس التي لا طائل من ورائها
Leave a Reply