قاسم ماضي – إلى التي في الكون لولاها ما كنت شيئاً أو عرفت اللهَ أماه إن العمر قد غربت مفاتنه وطفلك في المدى تاها
بهذين البيتين الشعريين، افتتح الأديب الأميركي من أصل مصري عادل بسيوني رحلة رصده للمشهد الثقافي العربي بولاية ميشيغن الأميركية، في كتابه الصادر حديثاً بعنوان: «الجالية العربية في ميشيغن بين الإرث العربي والحلم الأميركي»، عن دار «المؤسسة العربية للعلوم والثقافة» بالقاهرة.
مضمون المقالات المتعددة في الكتاب، يظهر بوضوح رغبة الكاتب في تأسيس وعي مغاير في مغتربه الجديد، متأملاً بترسيخ تقاليد وسياسات جديدة خاصة بالمشهد الثقافي في منطقة ديربورن التي يعيش فيها، وقد استثمر كل الموارد المتاحة لأرشفة الحركات والظواهر الثقافية والاجتماعية واستجلاء أسرارها وخفاياها، في سبيل الإضاءة على قيم إنسانية وأخلاقية تنشد الحب والسلام في هذا المنفى الكبير.
يكتب بسيوني في مقدمة كتابه: «لعنتُ اليوم الذي وجدت فيه مدعين لا مثقفين، حيث تحولت المعارك الأدبية إلى فتنة بغيضة بين الخصوم. اليوم الذي وجدتُ فيه مثقفين لم يدركوا أزمة المشهد الثقافي العربي، ولم يعلموا إلى أين هو ذاهب ولماذا. إني لا أعتذر إذا ما قلت، إن الثقافة قد عزّت علينا عندما فاحت رائحةُ الشواءِ والأراكيل، وغزت سماء مدينتكم، وقد علت على الكلمة التي ما كانت إلا لتجمعكم».
إنه يستصرخ هذا الوسط «الثقافي»، للتأكيد على أنه لا بد من وضع النقاط على الحروف، مستنيراً بأفكار ورؤى الفلاسفة السابقين، وفي مقدمتهم عالم الأنثروبولوجيا البريطاني إدوارد بيرنت تايلور، الذي عرّف الثقافةَ بأنها: «ذلك الكل المركب من المعلومات والمعتقدات والفنون والأخلاق والعادات والتقاليد التي يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في المجتمع». هذا المفهوم، بدا بالنسبة لبسيوني، غائباً عن جمهور المهاجرين العرب في منطقة ديترويت، التي وصل إليها، عام 1996، ولم يتأخر بالانخراط في ما توفر من فضاءات إبداعية، عاكساً ملامح تجربته ونشأته المصرية، حيث باشر –على الفور– بالكتابة «بشغف حائر» للبوح عما يجول في صدره وما يواجهه من هموم، ويعتريه من صراع بين الإقامة الدائمة بأميركا والعودة إلى الخليج العربي حيث يعمل في أحد بلدانه مهندس ديكور.
هنا يمكن القول إن أي كاتب حينما يشرع في الكتابة فلا بد من الإحاطة بمجمل فنون التعبير، كالمقالة والشعر والقصة، فما بالك بشاعر نشر العديد من الدواوين والمجموعات القصصية، وحصل على العديد من الجوائز الأدبية في بلده الأم. ولهذا، حين اكتوى بسيوني بنيران الغربة والبعد عن الأهل، كان من الطبيعي أن يبادر إلى ترسيم خارطته في معتركه الحياتي الجديد. وفي هذا السياق، يقول الناقد المصري محمد دحروج في إطار تقديمه للكتاب: «لا تجيء حياة إنسان وفق ما يرسمه لنفسه في كل شأن من شؤون وجوده الأرضي والنفسي، نحن في زمن الفلسفة الوجودية، حيث الإنسان فكرة كبرى تدور حولها الحقائق. وللحقيقة وجهان، وجه لا يعرف تشوه القسمات، ووجه يطوف حول كعبة الزيف والكذب». ويتابع واصفاً أسلوب بسيوني في الكتابة: «وفي نهاية الأمر، فالحياة عالم غريب مليء بالتناقضات، فأنت المغامر وأنت الطموح الجريْ الحزين البائس الذي تلفه دوائر الكآبة، الحياة أكبر من أن نهزمها، وإنما غاية الأمر أننا قد نخوض معاركها بإرادة لا تعرف الكلل».
ويلخص دحروج إلى الكتاب الجديد «هو بمثابة أرشفة ومقالات تخص الكاتب وبعض القصائد التي أراد لها الكاتب أن تكون بمثابة درس إلى الآخر الذي يعيش ضمن البيت الديترويتي، ولو تفحصت «قصيدة ديترويت» لوجدتها إضاءة لواقع الحال الذي يعيشه الشاعر، عبر لغة فيها من الدلالات التي تحفز الذاكرة وتاريخ هذه المدينة».
إن محاولة بسيوني الجادة في رصد المشهد الاغترابي ببعديه الثقافي والاجتماعي، تكمن في حرص الكاتب على سبر أغوار واقع الجالية العربية في ولاية ميشيغن، من خلال حراكها الثقافي المتمثل بأنشطة المنتديات الثقافية والملتقيات الأدبية، مثل «رابطة القلم» و«صالون دجلة» و«المجلس الاسبوعي» الذي يقيمه «المجمع الثقافي الإسلامي» و«رابطة لبنانيي الشمال» ، و«المركز الدولي للثقافة والفنون والإعلام»، وكذلك في الإضاءة على إنتاجات بعض مبدعي وكتّاب الجالية، فضلاً عن الصحف العربية الصادرة في منطقة مترو ديترويت، مثل «صدى الوطن» و«الحدث» و«المنتدى» و«اليمني الأميركي» و«السبيل»، ناهيك عن متابعة المؤسسات والمنتديات العربية العاملة في المجالين السياسي والاجتماعي والثقافي مثل «المتحف العربي الأميركي الوطني» بديربورن.
لم يخلُ الكتاب من عرض وجهات النظر التي تناولت مقاربات فكرية لمفكرين ورجال دين إصلاحيين، مثل الشيخ محمد عبده والسيد محمد حسين فضل الله، وكذلك تقديم قراءات نقدية في بعض المطبوعات والمنشورات في أوساط الجالية العربية بمنطقة مترو ديترويت.
في الختام، يمكن القول إن كتاب «الجالية العربية في ميشيغن بين الإرث العربي والحلم الأميركي» يشكل رافداً معرفياً هاماً لمن يريد التعرف على أجواء المشهد الثقافي العربي في ولاية ميشيغن، ومعيناً لتلمس مسيرة الجالية العربية وأحوال تطورها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
Leave a Reply