الأب ألفرد بدوي: التحدي الأكبر هو حفظ الأجيال الجديدة من الذوبان
كلينتون تاونشيب – «صدى الوطن»
طارق عبدالواحد/حسن خليفة
المسيحيون اللبنانيون في ميشيغن –وتحديداً الموارنة– يشكلون أحد أعرق المجتمعات وأعمقها جذوراً في منطقة ديترويت الكبرى. إذ وصل المهاجرون المسيحيون الأوائل من سوريا الكبرى إلى ديترويت في أوائل القرن الماضي، وتعاقبت أجيالهم إلى يومنا هذا، حتى باتت تقدّر أعدادهم اليوم بعشرات الآلاف.
وإذا كان المسيحيون القادمون من بلدان الشرق الأوسط أكثر اندماجاً وتفاعلاً مع المجتمع الأميركي إلى درجة الذوبان فيه أحياناً، فإن الكنائس المشرقية –ومن بينها الكنيسة المارونية– شكلت على مرّ العقود وعاء جامعاً حفظ للمسيحيين المشرقيين هويتهم وخصوصيتهم الثقافية.
كنيسة جديدة
مع التدهور الاقتصادي والأمني الذي عاشته مدينة ديترويت ابتداء من ستينات القرن الماضي، بدأ المسيحيون المشرقيون –ومن بينهم الموارنة– بالنزوح إلى الضواحي الشرقية لديترويت، لاسيما غروس بوينت ووورن وستيرلنغ هايتس، حتى أصبحت مقاطعة ماكومب اليوم مركزاً للجاليات المسيحية المشرقية سواء اللبنانية أو العراقية.
وفي ظل التغيرات الديموغرافية التي شهدتها المقاطعة خلال السنوات الأخيرة، تحولت بلدات فيها، مثل كلينتون وشيلبي، إلى مراكز استقطاب جديدة لتلك الجاليات، لاسيما الجالية المارونية التي احتفلت –في 15 أيلول (سبتمبر المنصرم)– بافتتاح المقر الجديد لـ«كنيسة مار شربل المارونية الكاثوليكية» في كلينتون تاونشيب، بعد عقود من خدمة الرعية من مقرها السابق في مدينة وورن.
تضمن برنامج الاحتفال قدّاساً إلهياً وترانيمَ كنسية ولوحات فنية تراثية تعكس هوية الكنيسة، إضافة إلى مباركة جدران المبنى الجديد بالزيت المقدس، وسط حضور المئات من الموارنة الأميركيين الذين جاء بعضهم من ولايات أخرى للمشاركة في المناسبة، وفي مقدمتهم أسقف أبرشية «سيدة لبنان»، في لوس أنجليس، القس إلياس زيدان، الذي دعا الحشد الكبير من الرعايا والضيوف إلى استلهام قيم القديس شربل والتمثل بها في تصرفاتهم ونشاطاتهم اليومية. وقال الأباتي الذي قدم من ولاية كاليفورنيا للمشاركة في الاحتفالية: «دعونا نستهلم روحانية مار شربل ونظهر إيماننا في تصرفاتنا ونشاطاتنا اليومية، لأننا بهذه الطريقة لا نقوم فقط بتكريس قدسية هذا المبنى، وإنما نقوم أيضاً بتكريس قدسية أنفسنا»، لافتاً إلى القيم المسيحية العميقة حول التعاطف والتسامح والغفران.
من جانبه، رحّب راعي الكنيسة الأب ألفرد بدوي بالحضور، واصفاً البناء الذي استغرق تشييده ثلاث سنوات على مساحة 29 ألف قدم مربع: «بالمكان الجميل للصلاة والعبادة والأنشطة الاجتماعية»، مضيفاً «أتشرف بالترحيب بكم في بيتكم الجديد».
الكنيسة تتبع رعاياها
وفي حديث مع «صدى الوطن» التي زارت «كنيسة مار شربل» الجديدة، عزا بدوي انتقال المقر من مدينة وورن إلى بلدة كلينتون تاونشيب إلى سبب رئيسي مفاده أن «الكنيسة تتبع رعاياها»، مشيراً إلى تنامي الجالية المارونية في المنطقة وحاجة أبنائها إلى مكان قريب لأداء صلواتهم وممارسة شعائرهم الدينية.
ولفت إلى أن الأعداد الكبيرة للموارنة اللبنانيين قد أُخذت بعين الاعتبار خلال تصميم الكنيسة التي تتسع لـ700–800 مصلٍّ.
ولدى سؤالنا، عما إذا كانت تتوفر لدى الكنيسة إحصائيات دقيقة لأعداد الموارنة اللبنانيين في منطقة مترو ديترويت، أفاد بعدم وجود أرقام دقيقة بهذا الصدد، لكنه أكد على أن «منطقة ديترويت الكبرى تضم أضخم تجمع ماروني في الولايات المتحدة، إذ تعيش فيها حوالي 1300 أسرة، بينها أكثر من 500 في مقاطعة ماكومب».
وأوضح قائلاً: «هذه الأرقام تقديرية، وأما الأعداد الحقيقية فهي أكبر من ذلك، كما أن الكثيرين من مهاجري الموجات الأولى ذابوا في المجتمع الأميركي، وفي مجتمعات المسيحيين اللاتينيين، مثلما هو الحال في مدينة غروس بوينت».
أضاف: «لقد بدأ المورانة بالهجرة إلى الولايات المتحدة بين عامي 1860 و1880، وفي ذلك الحين لم يكن يتواجد بينهم خوارنة ومطارنة فكان على المهاجرين الأوائل أداء صلواتهم في الكنائس اللاتينية، وعلى الرغم من تأسيس أول كنيسة مارونية في ديترويت عام 1916، إلا أنه لم يتم تعيين مطران للموارنة في أميركا حتى العام 1965، وهو المطران فرنسيس الزايك».
تحديات
الأب بدوي شدد على الدور الذي تلعبه الكنيسة في حماية الهوية اللبنانية في المهجر الأميركي والمحافظة على قيم وروحانيات الكنيسة المشرقية، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة باتت تضم 115 كنيسة و15 رعية (إرسالية). وقال: «أما في منطقة ديترويت، فتوجد ثلاث كنائس، هي كنيسة مار مارون بديترويت. وكنيسة القديسة رفقة بمدينة ليفونيا، إضافة إلى كنيستنا».
وفي إطار مساعي كنيسة مار شربل للحفاظ على هوية المجتمع الماروني المحلي، يؤكد بدوي على جهود كنيسته في استقطاب الأطفال واليافعين بين سني 4–16 عاماً من خلال برامج فنية وترفيهية متعددة، إلى جانب الاحتفال بالمناسبات والأعياد الدينية، و«كذلك من خلال مدرسة الأحد التي تعلم الدين المسيحي واللغة العربية».
وحول تفاعل الجالية المارونية مع الكنيسة، أكد بدوي على حرص معظم العائلات على ارتياد المناسبات الدينية والاجتماعية، مشيراً إلى أن 300 عائلة مارونية تبرعت بثلاثة ملايين ومئتي ألف دولار لبناء المقر الجديد، كما أن بعض العائلات الأخرى تبرعت بتقديم أثاثات الكنيسة وبعض مقتنياتها. وقال: «مادام لديك نوايا طيبة، وتتعامل بشفافية وموثوقية مع الآخرين، فلن يتأخروا عن تقديم المساعدة».
لكن بدوي لا يخفي معاناة الكنائس المشرقية عموماً في اجتذاب أبناء الأسر المسيحية، بسبب النظام التعليمي في المدارس الأميركية، والذي يوفر حسومات مالية لأبناء الأسر التي ترتاد الكنائس اللاتينية، وقال: «إن إمكاناتنا المالية لا تسمح لنا بافتتاح مدارس، ولهذا فإننا –كمسيحيين مشرقيين– نعاني باستمرار من هذه المسألة».
امتداد وطني
في السياق ذاته، يلفت بدوي إلى أن حرص الكنائس المارونية في أميركا لا يقتصر على التواصل بين أبناء المجتمعات المحلية، وإنما يتعداه إلى توفير فرص وإمكانيات التعارف والتواصل بين جميع المورانة اللبنانيين في أنحاء الولايات المتحدة، وذلك من خلال فعالية «المؤتمر الماروني» السنوية.
وقال: «لقد تأسس هذا المؤتمر في 1965، ويعقد سنوياً لمدة أسبوع، ولا تقتصر فعالياته على الشؤون الكنسية التي تتم مناقشتها خلال أول يومين من أيام المؤتمر السبعة، وإنما تتضمن فعاليات اجتماعية عديدة، يتعارف خلالها اللبنانيون الأميركيون، وينشئون العلاقات والصداقات.. التي ينتهي الكثير منها بالزواج بين أبناء الطائفة».
ولفت إلى أن «المؤتمر الماروني» يستقطب سنوياً حوالي 1000 شخص في كل عام، مشيراً إلى أن المؤتمر عقد في السنة الماضية بمدينة هيوستن بولاية تكساس، ومن المزمع عقده في السنة المقبلة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا.
وأكد على أهمية هذه الفعالية في تعريف اللبنانيين ببعضهم البعض، خاصة وأن ظروف العمل والإقامة وبعد المسافات لا تسمح بالتواصل بين المورانة المنتشرين بكل أرجاء الولايات المتحدة.
قصة كنيسة.. قصة جالية
من جانبه، أكد إيلي باسيل أن قصة الكنيسة المارونية في منطقة مترو ديترويت تختزل قصة الجالية المارونية التي بدأت بالتوافد إلى ولاية ميشيغن منذ بدايات القرن العشرين للعمل في مصانع السيارات بشركة «فورد». وقال: «في البداية، كان المهاجرون الأوائل يعيشون على امتداد شارع جيفرسون بمدينة ديترويت، لكي يستقلوا الحافلات إلى أعمالهم، لأنهم في ذلك الحين كانوا غير قادرين على امتلاك السيارات».
كانت الموجات الأولى من الموارنة اللبنانيين تضم مهاجرين من مختلف المناطق اللبنانية، لاسيما من عكار وكسروان والبقاع الغربي، وكانوا في البداية يؤدون التزاماتهم الدينية في كل من كنيسة بيتر وكنيسة بولس في داونتاون ديترويت. ومع نمو المجتمع الماروني، غدت الحاجة ملحة إلى تأسيس كنيستهم الخاصة، حيث تقدموا بطلب إلى البطريركية المارونية في لبنان من أجل هذا الغرض، مما أسفر عن تأسيس أول كنيسة كاثوليكية مارونية بديترويت، وهي كنيسة «مار مارون» في 30 نيسان (أبريل) 1916، على العنوان: 1555 إيست كونغرس.
باسيل، وهو عضو في هيئة أمناء كنيسة «مار شربل» المؤلفة من 12 عضواً، شدد على أن الكنيسة الأولى كانت مكاناً لالتقاء الجميع ولتوطيد أواصر العلاقات بين المهاجرين اللبنانيين من مختلف المناطق اللبنانية، كما أنها ساهمت إلى حد كبير في حماية الكثيرين من الذوبان في المجتمع الأميركي.
وأكد ابن بلدة الهلالية في الجنوب اللبناني على أن الكنيسة هي «البيت الثاني للمسيحي»، وأنها لعبت دوراً محورياً في الحفاظ على الانتماء الماروني للكثير من المهاجرين الذين استمروا بالتدفق إلى عاصمة صناعة السيارات في العالم، في الوقت الذي كانت تشهد فيه منطقة مترو ديترويت ازدهاراً اقتصادياً متنامياً عبر انتهاج سياسات تنمية الضواحي بعد شقّ الطرقات السريعة، في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
ومع نمو الضواحي والمدن المتاخمة لديترويت، بدأت الأسر اللبنانية المسيحية بالانتقال شمالاً، على طول شارع جيفرسون، إلى ضواحي مثل غروس بوينت وسانت كلير شورز وغيرها. وبانتقالهم من أحياء ديترويت القديمة، تبدل مركز الجالية المارونية، وفي 1966 نقلت «كنيسة مار مارون» من شارع إيست كونغرس في الداونتاون، إلى موقعها الحالي على شارع كيرتشفال في شرق ديترويت، وهي لاتزال تخدم حالياً نحو 30 عائلة مارونية، بحسب الأب بدوي.
باسيل، الذي يصر على التعريف بنفسه على أنه «مجرد خادم للكنيسة»، أشار إلى أن «كنيسة مار شربل» التي تأسست عام 1987 في مدينة وورن شكّلت مع «كنيسة مار مارون» بديترويت أبرشية واحدة، لافتاً إلى أنه توجد –اليوم– في الولايات المتحدة أبرشيتان مارونيتان فقط، واحدة في نيويورك وأخرى في لوس أنجليس.
وفي 1993 غيرت كنيسة مار شربل موقعها ضمن حدود مدينة وورن، منتقلة إلى تقاطع شارعي شونهير والميل 13. وفي ظل تزايد أعداد الموارنة وانتقالهم إلى الضواحي الواقعة شمال المدينة، قرر القائمون على الكنيسة نقل المقر الجديد إلى بلدة كلينتون تاونشيب.
وقد حرص مصمم المبنى الجديد، المعماري غسان عبد النور، على إغناء المبنى الجديد بالمؤثرات المعمارية المستلهمة من الكنائس المشرقية في لبنان، حيث ولد القديس مار شربل عام 1828، وطوّبه البابا بولس السادس قديساً في 1977.
علاقة انتماء
«صدى الوطن» تحدثت أيضاً إلى اللبناني الأميركي ليونارد توماس، وهو ابن عائلة مارونية مهاجرة من بلدة سُرحل في الشمال اللبناني، حيث أفاض بالحديث عن علاقته الروحانية المتينة بالكنيسة، وشغفه العميق بجذوره المشرقية رغم عدم إجادته اللغة العربية.
توماس استذكر والديه اللذين كانا يصران طوال الوقت على الاستماع لمحطات الراديو من أجل تعلم اللغة الإنكليزية، وقال «كانا يفعلان ذلك طوال اليوم، إذ كان يتوجب عليهما تعلم الإنكليزية لكي يتمكنا من العيش والعمل والنجاح في أميركا».
مثل الكثيرين غيره، يعرف توماس بعض الكلمات العربية، مثل أسماء الأطعمة، وبعض التعابير القصيرة، ولكن انتماءه للكنيسة المارونية وحرصه على ارتيادها، هو ما يؤكد «جذوره اللبنانية التي تشكل مصدر فخر واعتزاز له»، بحسب تعبيره.
أما المشرفة على الكورال الكنسي، كريستيان بوشو، فقد أعربت عن شعورها بالسعادة بافتتاح المقر الجديد للكنيسة، مشيرة إلى معاناة الكثيرين خلال السنوات السابقة بالذهاب إلى المقر القديم بمدينة وورن، وقالت: «لقد أنعم الله علينا.. وتمكنا من بناء هذه الكنيسة الجميلة القريبة من تواجد الكثير من العائلات»، مضيفة «لقد تحقق الحلم بعد ثلاث سنوات من الانتظار».
وختمت بوشو بالقول إن «الكنيسة الجديدة أعادت لم شمل الكثير من العائلات في مقاطعة ماكومب، كما تجتذب الكثير من العائلات الجديدة».
Leave a Reply