استقطبهم العمل في الكروم والحقول.. وتمسكوا بجذورهم الإسلامية والثقافية على مر العقود
سان خواكين فالي، كاليفورنيا – خاص «صدى الوطن»
يوثق الفيلم التسجيلي: «الحصاد الأخير» لتجارب اليمنيين الأميركيين في منطقة الوادي الأوسط بولاية كاليفورنيا، الذين استقطبهم العمل الزراعي في الكروم والحقول منذ أواسط القرن الماضي، وحافظوا –على مر العقود– على جذورهم الثقافية والدينية رغم شظف العيش وصعوبة العمل وغياب العدالة الاقتصادية.
يسلّط الفيلم الضوء على تراكم الجهود التي آلت –في نهاية المطاف– إلى تشكيل مجتمع تجاري وثقافي يمني أميركي في وادي سان خواكين، بمساندة الأجيال الجديدة التي آثرت دعم عائلاتها على تحقيق أحلامها الشخصية.
البدايات
بحسب «الحصاد الأخير»، الذي نشرته منظمة «ميدل إيسترن أميركان ريسورسيز أونلاين»، فقد استقطبت مصانع السيارات في منطقة ديترويت أعداداً غفيرة من المهاجرين اليمنيين، فيما آثر زهاء خمسة آلاف مهاجر من محافظة إب الجبلية بالتوجه إلى منطقة «سنترال فالي» بولاية كاليفورنيا، للعمل في مزارعها وكرومها وحقولها المنتشرة في وادي سان خواكين، الذي يعرف بأنه «سلة غذاء العالم»، والذي ينتج حوالي 13 بالمئة من مجمل المحاصيل الزراعية في أميركا، وفي مقدمتها العنب والحمضيات والجوز، إضافة إلى جميع أنواع الخضروات.
الباحثة اليمنية نعمة العَمري التي تعمل على توثيق الانتشار اليمني في الولايات المتحدة، تطرقت في كتاب بعنوان: «سياسة الموت والحياة»، إلى الأسباب التي ضاعفت رغبة المزيد من اليمنيين بالهجرة إلى الولايات المتحدة وبلدان الخليج العربي، بحثاً عن لقمة العيش الكريمة، وتحسين ظروف عائلاتهم في الوطن الأم، بعد التدهور الاقتصادي الذي نجم عن الصراعات السياسية والعسكرية في اليمن، أوائل ستينيات القرن الماضي.
مهاجر رائد
شكلت قصة المهاجر محمد عبد الله، الحكاية الأساسية في «الحصاد الأخير»، للإضاءة على الرواد اليمنيين الأوائل في وادي سان خواكين وقصص نجاحهم الباهرة، رغم المصاعب والمشاق وتحديات اللغة والثقافة. وسرد عبدالله قصة وصوله إلى أميركا عام 1956، حيث أقام في البداية بولاية بنسلفانيا قبل أن ينتقل للعمل في كروم العنب بمدينة ديلانو بولاية كاليفورنيا، عام 1962.
بدأ عبد الله مسيرته المهنية بقطاف العنب لمدة ثلاث سنوات في شركة «صنفيو ڤينيارد»، وهي شركة رائدة في زراعة العنب في كاليفورنيا، وبسبب خبرته الزراعية التي اكتسبها في وطنه الأم، ترقى بسرعة من عامل إلى رئيس ورشة، ثم مشرفاً على المزارعين. وفي نهاية المطاف، أصبح رئيساً لعمال الشركة الذين تقدر أعدادهم بالمئات، معظمهم من اللاتينيين، رغم عدم إجادته الحديث بالإنكليزية وقراءتها.
وعزا عبدالله أسباب ولعه بالعمل الزراعي رغم تدني الأجور، إلى نشأته في مزرعة عائلته باليمن، وقال: «العمل في المزارع هو رغبتي، لقد ولدت وعشت بمزرعة في اليمن»، مضيفاً: «هذا النوع من الأعمال شاق، ولكنني أحبه».
علي عبد الله، ابن شقيق محمد، يتذكر أيامه الأولى في مساعدة أسرته بقطاف العنب وتوضيبه تحضيراً لنقله إلى الأسواق، لافتاً إلى أن يوم المزارعين يبدأ باستيقاظهم قبل الفجر، استعداداً للعمل في ساعات الصباح الباكرة.
وأظهر الفيلم مدرساً أميركياً لطلاب المرحلة الثانوية، والذي أكد بأن جميع طلابه اليمنيين عملوا في المزارع والحقول، لافتاً إلى أنهم كانوا يستيقظون في الرابعة صباحاً لأداء أعمالهم قبل دوامهم المدرسي. وقال: «كان عليهم –في كثير من الأحيان– المجيء إلى المدرسة بدون استحمام أو تناول طعام الفطور.. تفانيهم في العمل والدراسة جعل التعليم تجربة إيجابية للغاية، بالنسبة لي».
صعوبات العمل الزراعي
في كتابها المذكور آنفاً، أوضحت العمري بأن اليمنيين واجهوا كعمال زراعيين عقبات كأداء في سعيهم لتحصيل مداخيل عادلة، في بيئة الأجور المنخفضة والحواجز اللغوية، وشح الخدمات الاجتماعية وموارد الرعاية الصحية.
ولفتت العمري إلى أن المزارعين اليمنيين كانوا مرغوبين أكثر من غيرهم، مقارنة بالعمال المكسيكيين والفلبينيين، الذين كانوا ينظمون أنفسهم في نقابات عمالية لتحسين أجورهم وظروف عملهم.
وفي نفس السياق، مقال بعنوان: «عمال المزارع اليمنيون في كاليفورنيا»، أجرت فيه الكاتبة ماري بشارات مقابلات مع العديد من العمال الذين لم تتعدّ أجورهم 2.3 دولار في الساعة، فيما بلغ معدل الضرائب التي يدفعونها حوالي 20 بالمئة، في مرحلة من المراحل، لافتة إلى أنهم كانوا يتحملون أيضاً نفقات السفر جيئة وذهاباً بين المزراع وأماكن إقامتهم، والتي كانت تكلف ثلاثة دولارات لكل رحلة.
وفي البدايات، كان معظم اليمنيين يقيمون في مخيمات مصممة لإقامة العمال في جميع أنحاء وادي سان خواكين، والتي غالباً ما تبعد أميالاً عن المدينة.
وبالتوازي مع ذلك، يوضح الكاتب رون كيلي، في مقال بعنوان «اليمنيون في سان خواكين»، كم كانت الظروف المعيشية ضنكة وشديدة التقشف، لدرجة أن شخصين أو ثلاثة كانوا يتشاركون الإقامة في غرفة صغيرة، فيما أقام العشرات في مناطق مفتوحة، أشبه بالمعسكرات.
وأشار كيلي إلى أن أرباب العمل كانوا يخصمون من رواتب العمال مبالغ لتغطية نفقات المخيمات ومصاريفها. وأكدت بشارات أن 488 من مخيمات المزارعين الموسميين في كاليفورنيا، فشلت في تلبية معايير الإسكان والسلامة والصرف الصحي في الولاية، عام 1974.
الحفاظ على الهوية
على مر العقود الماضية، حرص اليمنيون على التمسك بجذورهم الثقافية والدينية، وواظبوا على تأدية الشعائر الإسلامية. ووفقاً لبشارات فإن العمال كان يفطرون في شهر رمضان بسبب عملهم الشاق، ولكنهم كانوا يتمسكون بأداء الصلاة في الحقول والمزارع، وفي المسجد كلما سنحت لهم الفرصة بذلك، كما أنهم كانوا يجتنبون المحرمات، مثل الكحول والمخدرات ولحم الخنزير.
وقد سعى اليمنيون إلى تنظيم صفوفهم رداً على المضايقات والاعتقالات المستمرة، حيث انضم بعضهم إلى نقابة المزارعين UFW التي أسسها الناشطان سيزار تشافيز ودولوريس هويرتا.
وكان النقابي ناجي ضيف الله، وهو مهاجر يمني عمره 24 عاماً، قيادياً في تلك النقابة وقد انخرط بفعالية في إضراب مزارعي العنب عام 1973، ونجح بتجاوز الخلفيات اللغوية والعرقية لتوحيد زملائه حول القضايا التي تخص المزارعين.
تشافيز يستذكر ضيف الله الذي عمل كمترجم فوري في UFW، ومناضل فعال في إضرابات الاتحاد العمالي، حيث قاد احتجاجات مطالبة بإنصاف العمال. وقال: «لسوء الحظ، جهوده لتحسين ظروف زملائه انتهت بمقتله على أيدي ثلاثة من عناصر شرطة مقاطعة كيرن في آب (أغسطس) 1973»، مضيفاً: «اليوم، في خضم التمييز العنصري والاقتصادي المستمر، يستمر إرث ضيف الله في إلهام العمال المهاجرين للمطالبة بحقهم في العدالة والمساواة».
تحولات الجالية
شكلت سبعينيات القرن الماضي منعطفاً هاماً في حياة المزارعين اليمنيين في سان خواكين، حيث بدأ الكثيرون بمغادرة المنطقة والانتقال إلى ميشيغن وولايات أخرى، فيما آثر البعض العودة إلى الوطن الأم.
وأما الباقون، فقد استثمروا الأموال التي جنوها من عملهم في المزراع والكروم في شراء المنازل أو تأسيس الأعمال التجارية في مدينة ديلانو.
في الوقت الحاضر، يوزع محمد عبد الله حياته بين أقاربه في اليمن وبين سان خواكين التي تعيش فيها زوجته اللاتينية مع أطفالهما، ويصف في «الحصاد الأخير»، كيف استثمر جزءاً من الأموال التي جناها بشق الأنفس لبناء منزل كبير في العاصمة اليمنية، صنعاء.
وأعربت ابنته، نورا، عن امتنانها لجهود والدها في تمهيد الطريق لها ولأخيها كي يعيشا الحلم الأميركي. وقالت في «الحصاد الأخير»: «إن عمل والدي لم يثمر عن نجاح مادي فقط، لقد غيّر العنب حياة أولاده، إنه فخور جداً بحقيقة أنه تمكن من أرسالي وأخي إلى الجامعة»، وأضافت: «بسبب عمله المضني وتضحياته الكبيرة، لم نضطر للعمل في الحقول».
من بين المئات المتبقية من اليمنيين في وسط كاليفورنيا، افتتح معظم اليمنيين متاجر وأعمالاً في جميع أنحاء المنطقة، ووثقت العمري لتنامي أعمال اليمنيين التجارية من «متاجر صغيرة إلى بقاليات كبيرة». وقالت: «منذ سبعينيات القرن الماضي، استطاع المجتمع اليمني أن يزدهر اقتصادياً بسبب نشاط الشركات الصغيرة التي أسسوها في الأماكن التي عمل العديدون منهم فيها كمزارعين».
مطعم «إلمرس» بمدينة ديلانو، هو أحد هذه الأعمال التي تقدم الوجبات الأميركية السريعة بنكهة يمنية تراعي التعاليم الإسلامية. يقدم «إلمرس» البرغر «الحلال» بشكل أساسي، ويعمل فيه أب يمني مع أبنائه الثلاثة.
ولتسليط الضوء على المطعم الذي يقصده الكثير من الزبائن الأميركيين، أكد الشاب صلاح عبيد أن قائمة الأطعمة تقتصر على اللحوم الحلال، وقال: «شطيرتي المفضلة هي تشيز برغر مع البيكون، ولكن بما أننا مسلمون، ولا يمكننا أكل لحم الخنزير، لذا فإن البيكون الذي نقدمه مصنوع من لحم البقر».
أحلام مؤجلة
وفي حين أن الجيل الثاني من اليمنيين يمتلك تطلعاتاً وأحلاماً كبيرة، إلا أنهم ما زالوا يشعرون بضرورة الوفاء لأسرهم وآبائهم الذين قاسوا الأمرين في مرحلة العمل الزراعي، مفضلين تأجيل أحلامهم في الوقت الحاضر، ودعم عائلاتهم لتحقيق النجاح في المستقبل.
وفي هذا السياق، أشار قيس، شقيق صلاح، إلى أنه تخرج من المرحلة الثانوية بدرجة «امتياز»، وأنه قُبل بـ«جامعة كاليفورنيا–بيركلي»، لاستكمال دراسته الجامعية، ولكنه آثر البقاء إلى جانب والده ومساعدته في أعمال المطعم. وأضاف: «لقد قررت البقاء بجانب عائلتي.. هذا أكثر أهمية بالنسبة لي من الجامعة، لإنني إذا فقدت عائلتي، فسوف أفقد كل شيء».
أما راكان صلاح، الذي يمتلك والداه متجر «فاستواي ماركت»، فقد أكد على أن أولويته القصوى تتمثل في أن «تبقى أوضاع العائلة جيدة». وقال: «التواجد في المتجر يعني العمل طوال الوقت، العمل ولا شيء آخر سوى العمل»، لافتاً إلى أنه كان يداوم في المتجر بعد انتهائه من المدرسة وحتى وقت متأخر من الليل. وقال: «في كثير من الأحيان، كنت أقوم بواجباتي المدرسية خلال عملي في المتجر».
التمسك بالهوية
إضافة إلى النجاح الاقتصادي الذي أحرزه اليمنيون في منطقة الوادي الأوسط بكاليفورنيا، يسعى أبناء المجتمع اليمني في سان خواكين للحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية، وغرسها لدى الأجيال الناشئة. وفي هذا الإطار، أسس اليمينون مركزاً إسلامياً يضم مسجداً ومدرسة في مدينة ديلانو، باسم: «مسجد ومدرسة أبي بكر الصديق».
وكما يحرص اليمنيون على التجمع والتلاقي خلال المناسبات الدينية والاجتماعية، يحرصون أيضاً على إرسال أطفالهم إلى المركز الإسلامي، في عطلات نهاية الأسبوع، لتعلم العربية ومبادئ الدين الحنيف.
ورغم انشغالاتهم اليومية، يتابع اليمينون أخبار الصراع الدامي في وطنهم الأم، مبدين خشيتهم على مصير عائلاتهم وأقاربهم، لاسيما وأن البعض منهم لم ينجح باستقدام أقاربه بسبب الحظر الذي فرضته إدارة الرئيس ترامب على سفر اليمنيين إلى الولايات المتحدة.
وفي هذا الإطار، قالت العمري: «منذ 2015، تسببت الحرب في اليمن بزيادة تدفق اليمنيين إلى الوادي الأوسط، بشكل كبير».
وتطرقت عدة تقارير إعلامية إلى معاناة اليمنيين بلم شمل أسرهم في الولايات المتحدة، لافتة إلى أن الكثيرين فشلوا طوال سنوات في إحضار «عائلاتهم إلى برّ الأمان».
من بين هؤلاء، عاش اليمني صابر عسكر مرحلة «مقلقة، بشكل مؤلم»، حيث لم يتمكن في تحصيل تأشيرات لإدخال زوجته وبناته إلى أميركا، في أعقاب وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض عام 2016.
وقال عسكر: «لا يمكنهم الحصول على ما يكفي من الطعام، وكل أسبوع يزداد الوضع سوءاً هناك، إنهم يجعلونني أنزف من الداخل في كل مرة أحادثهم فيها عبر الهاتف، أخاف من أنهم لن يجيبوا على اتصالي في المرة القادمة».
وأعرب عسكر عن أمله في أن تتمكن عائلته من الانضمام إليه في الولايات المتحدة، لكي يعيشوا بأمن وسلام في أرض الفرص، أميركا.
وأوضحت العمري أن المهاجرين اليمنيين يتحملون تبعات الأوضاع السياسية في كل من اليمن والولايات المتحدة، وقالت: «نريد أن نقول إننا لسنا أجانب في منطقة الوادي الأوسط، التي هي موطننا منذ عقود»، مضيفة أن «تاريخ عمال المزارع يوضح ذلك، ويوضح أيضاً الإسهامات التي قدمها اليمنيون في كاليفورنيا، وفي التاريخ الاجتماعي الأميركي عموماً».
خاتمة
اليمنيون غير المعروفين –على نطاق واسع– في كاليفورنيا، هم أبطال الكثير من قصص النجاح التي استلهمت الحلم الأميركي، فتلك العائلات التي يبلغ عددها بضعة آلاف في وسط كاليفورنيا أنجزت تجربة ريادية بالغة الجرأة، رغم شظف العيش ومشاق العمل، والتمييز، والظلم الاقتصادي.
ورغم أن الشباب يمتلكون الفرصة لمغادرة الوادي، إلا أنهم لم يقطعوا حبلهم السري بمزارع العنب، وبدلاً من ذلك، فضلوا الاستقرار في المنطقة، وأقاموا مجتمعاً نابضاً بالحياة والحركة.
وكتبت بشارات، في هذا السياق: «إن فخر اليمني وإحساسه بالواجب وتحليه بالوفاء.. هي خصال دعمته في الماضي، ومكنته من تجاوز المصاعب المستجدة وتحقيق الازدهار.. التي تواصله الجالية اليمنية تجسيداً لتلك المبادئ».
بقلم: نيخيل ميسرا–ب امبري،
صحافي مستقل مقيم في كاليفورنيا
Leave a Reply