كمال ذبيان – «صدى الوطن»
حادثة قبرشمون في قضاء عاليه بجبل لبنان، والتي وقعت بين عناصر من «الحزب التقدمي الاشتراكي» وآخرين من «الحزب الديمقراطي اللبناني» كانوا برفقة الوزير صالح الغريب، جاءت لتشهد بالدم على فقدان الدولة لهيبتها، وتؤكد المؤكد بأن «أمن الطوائف» أقوى من طاقة الدولة العسكرية والأمنية، المشرذمة بين تعدد الولاءات الطائفية والمذهبية التي تطفو بوضوح لدى وقوع أي حادث أمني، أو اختلال سياسي، وهو ما سبق وذكرناه في مقال سابق في «صدى الوطن» بأن «فدرالية الأمن» مولودة من رحم «فدرالية الطوائف»، وذلك بسبب النظام السياسي الذي لم يُعمل على إلغاء الطائفية منه، وفق ما ينص عليه اتفاق الطائف.
الصراع الجنبلاطي–الإرسلاني
ما جرى في قبرشمون، هو امتداد لما جرى في الشويفات قبل أكثر من عام، عندما اشتبك عناصر من «الاشتراكي» برئاسة وليد جنبلاط، وآخرين من «الديمقراطي» برئاسة النائب طلال إرسلان، على خلفية الانتخابات النيابية الأخيرة، حيث سقط قتيل اشتراكي يدعى علاء أبوفرج، فأعاد إلى الأذهان الصراع الجنبلاطي–الإرسلاني (أو اليزبكي) كما يوصف تاريخياً، والذي كان دائماً سياسياً، ويتحوّل عسكرياً عندما تحصل تحالفات لها طابع دولي–إقليمي، كما في العام 1958، حين ساند الأمير مجيد إرسلان الرئيس كميل شمعون في خياره السياسي بالتحالف مع الولايات المتحدة ومشروع رئيسها دوايت إيزنهاور في المنطقة لمحاربة الشيوعية، في حين وقف كمال جنبلاط ضد شمعون وانضمّ إلى جبهة معارضة له، ضمّت زعماء سياسيين، سقطوا في الانتخابات النيابية، ومنهم جنبلاط نفسه، وساروا في ركاب «الناصرية» و«الوحدة العربية» التي قادها الرئيس المصري جمال عبدالناصر.
حينها وقعت أحداث دامية في الجبل، كان طرفاها الرئيس شمعون وحلفاؤه وفي مقدمهم إرسلان الأب من جهة، وجنبلاط الأب وحلفاؤه من جهة أخرى، وانتهت الحرب التي لم تدم سوى ثلاثة أشهر، بعدم التجديد لشمعون في رئاسة الجمهورية، وانتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية بتسوية أميركية–مصرية تحت شعار «لا غالب ولا مغلوب».
التاريخ يعيد نفسه
ولأن التاريخ يعيد نفسه، فإن حلفاً نشأ بين «التيار الوطني الحر» الذي يرأسه الوزير جبران باسيل، وإرسلان، وهو ما أقلق جنبلاط، من عودة الزعامة الإرسلانية إلى سابق نفوذها في ظل عهد الرئيس ميشال عون، وكأن باسيل يحاول تقمّص دور شمعون الذي أصبح رمزاً وقديساً سياسياً عند المسيحيين.
فباسيل، يقدم نفسه على أنه من أعاد للمسيحيين حقوقهم، بانتخاب «رئيس قوي» هو العماد عون، وإيصال ممثليهم إلى مجلس النواب بأصواتهم، وقد حصلوا من خلال قانون الانتخاب الأخير على خمسة مقاعد لهم في عاليه والشوف، وهي مقاعد كان جنبلاط يقتنصها، إضافة إلى المقاعد المسيحية في قضاء بعبدا، وأقضية أخرى، مما ترك رئيس الاشتراكي يقلق من طموحات باسيل، متحدثاً عن محاولات لتحجيمه، ومحاصرة «المختارة»، واستعادة آل إرسلان لحضورهم السياسي الذي افتقدوه في الحرب الأهلية التي لم يشاركوا فيها، وبعد وفاة الأمير مجيد إرسلان، دون وجود وريث سياسي له، فخلت الساحة الدرزية للزعامة الجنبلاطية، التي استفادت من حرب الجبل، وأصبح جنبلاط شريكاً أساسياً في المعادلة الداخلية ولها حصة كبرى في عدد المقاعد النيابية والوزارية، كما في تعيينات وظائف الفئة الأولى. أما أن يأتي من ينافسه عليها، مدعوماً من «التيار الوطني الحر» كحليف باتت له كلمة في الجبل، فلن يعتبره زعيم المختارة إلا تعويماً لإرسلان، ومحاصرة له، وهو لا يخفي ذلك في تصريحاته، منذ التسوية الرئاسية بين «تيار المستقبل» و«التيار الوطني الحر»، التي أوصلت عون لرئاسة الجمهورية، والتحق بها جنبلاط على مضض، كي لا يخسر مكاسبه في السلطة فيغتنمها إرسلان الذي أمّن له باسيل كتلة من أربعة نواب ساعدته ومكّنته من أن يحصل على مقعد وزاري وحصة في التعيينات التي احتكرها جنبلاط لعقود.
ومنذ توليه الرئاسة سعى عون إلى تهدئة مخاوف جنبلاط، ونجح في الوصول إلى تفاهم غير مباشر بينه وبين إرسلان الذي حصل على مقعد وزاري من حصة الدروز، فيما كانت رئاسة الأركان في الجيش من حصة جنبلاط، فتم تعيين اللواء أمين العرم، كذلك كان لجنبلاط تعيين عضو المجلس الدستوري القاضي رياض أبوغيدا الذي تربطه أيضاً علاقة جيدة بإرسلان، فأراحت تطمينات الرئيس عون، جنبلاط قليلاً، إلا أن هواجسه استمرّت مع اتساع دور باسيل وقربه من الرئيس الحريري.
جولات باسيل
جاءت زيارة الوزير باسيل إلى عاليه الأسبوع الماضي، لتفجّر الخلاف مع جنبلاط الذي لم يرق له كلام باسيل في الكحالة، حول معارك سوق الغرب، وكأنه استحضار للحرب الأهلية، لاسيما معارك الجبل بين الدروز والمسيحيين التي طويت صفحتها مع المصالحة الشهيرة عام 2002.
تصريحات باسيل وتّرت الأجواء، واعتبرها رئيس الاشتراكي كلاماً فوقياً يدل على غرور وتحدٍّ، حيث قوبل كلام رئيس «التيار الوطني الحر»، بخروج المسلحين الاشتراكيين إلى الشارع، لمنعه من مواصلة زيارته للجبل، من ضمن سلسلة جولات إلى المناطق، تمّ الترحيب ببعضها، والتحفظ على بعضها الآخر، في حين قابلتها بعض المناطق بالرفض والاحتجاج، إذ رأى الاشتراكيون أن باسيل لا يمكنه دخول الجبل، من بوابة خلدة (دارة إرسلان)، بل من بوابة المختارة (دارة جنبلاط) التي سبق له أن تخطاها في زيارات سابقة له إلى الشوف. منها ما تم بموافقة جنبلاط مثل قداس دير القمر بدعوة من وزارة المهجرين تحت شعار «توبة وغفران»، وحضره زعيم المختارة وألقى كلمة، لكن باسيل ذهب في كلامه عن أحداث 1860 إلى حد اعتبره بعض الدروز استفزازاً صريحاً، واستقواءً على الآخرين.
توتّرت العلاقات، وزاد عليها رفض إرسلان تسليم أمين السوقي المتّهم بحادثة الشويفات، التي أسقط أهل القتيل علاء أبوفرج حقّهم الشخصي فيها.
حادثة قبرشمون
أما ما حصل في قبرشمون، فكانت رسالة أرسلها الحزب الاشتراكي إلى باسيل، كما لحليفه إرسلان، بأن زعامة جنبلاط أقوى من أن يضعفها تحالفهما، وأن للجبل بوابته، وهي المختارة، التي ينتابها القلق، من اختراق باسيل للساحة الدرزية، وخلق توتر داخلها، كما حصل في أكثر من منطقة في الشويفات والجاهلية ودميت وقبرشمون ووطى المصيطبة، إضافة إلى قلق جنبلاطي، من عودة النظام السوري إلى الجبل عبر حلفاء له. وقد أثار هواجس جنبلاط كذلك وقوف «حزب الله» إلى جانب رئيس «حزب التوحيد العربي» وئام وهاب في حادثة الجاهلية مع شعبة المعلومات التي سقط فيها مرافقه محمد أبوذياب، كما أثاره تشغيل معمل «إسمنت الأرز» في عين دارة لآل فتوش لقرار من مجلس الشورى، ضد قرار وزير الصناعة وائل أبوفاعور (اشتراكي) الذي ألغى قرار الوزير السابق حسين الحاج حسن (حزب الله)، مما وتّر العلاقة بين الحزبين، فجاءت حادثة قبرشمون نتيجة تراكم حوادث عدة، كانت تقلق جنبلاط الذي يشعر وكأنه محاصر.
محاولة اغتيال
لم يكن ما حصل في قبرشمون، حادثاً عابراً، بل اعتبره البعض محاولة لاغتيال باسيل، فيما اعتبره إرسلان، محاولة لاغتيال الوزير الغريب، الذي قُتل مرافقاه رامي سلمان وسامر أبوفراج، مطالباً بإحالة القضية إلى المجلس العدلي، وهو ما تسبّب بخلاف داخل الحكومة بعد رفض الرئيس الحريري هذا التحرك، ليقف لبنان مرة أخرى عند مفترق أمني خطير.
وإذا لم تنجح الاتصالات التي تجرى بوساطة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، في تهدئة التوتر، فيمكن للأوضاع الأمنية أن تنفلت بسهولة بعد أن أصبحت في عهدة الشارع الذي بات يشهد بشكل شبه يومي، تظاهرات احتجاجية أو مطلبية تحت شتى العناوين، بحيث يمكن وصف لبنان اليوم بأنه يعيش «فوضى خلاقة»، وبأن الدولة فيه يمكن وصفها بالفاشلة، إذ أن الأمن فيها مازال بالتراضي، تحت سقف قرار دولي وإقليمي بحماية الاستقرار. غير أنه مع المشروع الأميركي لتسوية الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني، بما يسمى «صفقة القرن»، قد يجعل لبنان ساحة للتفجير، كما حدث مع مشاريع أميركية سابقة في المنطقة، كان لبنان أول من يدفع ثمنها بأزمات سياسية وحروب عسكرية واغتيالات وتفجيرات.
إن حادثة قبرشمون أظهرت بأن لبنان قابل للاهتزاز بسبب تصريح أو كاريكاتور أو خطبة، وهو ما يؤكد على هشاشة الدولة وتداعي هيكلها الطائفي وتفشي الفوضى الخلاقة في كل التفاصيل.
Leave a Reply