من بلاد ما بين النهرين يتناهى الينا صراخ وآلام المفجوعين والعطشى والجائعين. هم المفجوعون بانفجار البيت على قاطنيه بين نهر الحياة المر ونهر الموت المحتوم، المتسارع، اللاهث، كلهيب بركان زاحف من علو ليحرق الأخضر القليل واليباس الكثير. كأننا في آلام مخاض حامل، لم تعد تذكر هوية الأب، من كثرة المتناوبين.
آه… من آلام أهل أرض ما بين النهرين وجروحهم. كل قلوب العالم لا تتسع لمآسي وتفجع اهلها. كأنما كتب عليها النزف المستمر والتفجع الأبدي. دار ابوابها المتصدعة تتلاعب بها الرياح. ناسها يولدون جسداً… ويُدفنون أجساداً.
آه… من جروح وسجون التاريخ. من جروح لم تندمل، ولم يترك لها الزمن فسحة لتبرأ. جروح شاهدها الأبناء والأحفاد على أجساد الكبار… وشاهدوها صوراً معلقة على الجدران… فتيبست في الوجدان وعصت على الزمن والأفكار المستوردة.
ماذا فعل أهل تلك الأرض كي تفتك بهم لعنة التاريخ والجغرافيا؟ لا علاقة للسماء بالموضوع. التاريخ لعب لعبته: أرض شاسعة غنية بالماء والزرع والموارد، أرض كتب لها ان تشهد صراع من كتبوا تاريخ آخر دين، وارض ضاع اهلها بين غاز من الشرق وغاز من الغرب. جيوش تزحف فتفتك بنصف اهل تلك الأرض، وجيوش تليها لتفتك بالنصف الآخر.
يا للحزن والألم والتفجع المتوارث… يا لناس كتب لهم العيش تحت جزمات العسكر، وعلى حد السيف. كم من امهات بكين ومزقن ثيابهن، كم من آباء دفنوا من توجسوا فيهم امان آخر العمر، كم من شباب وشابات في زهرة العمر ادرن ظهورهن للحياة باكراً. العراق أرض التراب الحزين. أرض تخفي الأمهات أولادها تحت التراب كي لا يموتوا على الجبهات الرخيصة.
كان ممنوعاً عليهم البكاء في العراق. ممنوع عليهم الكلام وحتى الحلم أو مجرد التنفس ممنوع عليهم. يخرج عليهم في المناسبات من على الشرفات العالية، يظهر عليهم فجأة في البادية مع راع بعيدا عن الرعية، يظهر عليهم مصلياً، راكعاً، ولا يتردد في سفك دماء اقرب المقربين. ارسلهم الى الجبهات كي يموتوا كالذباب، ثم ادخلهم في نفق الجحيم. استجلب اليهم اقسى الجيوش وافتكها… بعد ان الصقته على الكرسي طويلا. صارت أرضهم… أراض.
أرض العراق.. أرض الحزن والبؤس المتوارث عبر العصور والأجيال. مصنع للشعراء والكتاب والرسامين والأصوات الشجية التي تختزن اسى وحرقة الأعمار. ارض العراق هجرها هؤلاء الى كافة اصقاع العالم، لأن ارضهم دخلت المرحلة السوداء والصوت الواحد. الحزن مصنع الفنون، والآلام محبرة الشعراء، والكبت ريشة الرسام. ارض تجبل المبدعين من شجنها ثم تركلهم الى البعيد.
وداعاً أهل العراق، والى اللقاء بعد مئة عام أو أكثر.
ومن فلسطين لنا سحر موسى، وعجائب عيسى وحبه، وامانة محمد وخلقه. من فلسطين لنا كل شيء: لنا الأحجار القديمة لجوامع القدس وكنائسها، لنا الأزقة الضيقة لأحياء المدينة ودردشات المعمرات وصراخ الأطفال خلف كرة مصنوعة من أكياس الورق، ولنا عجقة الأسواق، ورائحة اشجار الليمون وزهره، ولنا حبات الزيتون تهوي على البسط، ولنا ضربات مجادف البحارة في موج البحر، ولنا مدن الساحل والموانئ، ولنا القرى، والتراب لنا… كل شيء لنا… وليس لنا.
في فلسطين كانت الخسارة الأولى والضياع الأول والفجيعة الاولى والثمن الأكبر. فلسطين كانت ولا تزال الحجة الاولى والأخيرة. هي قضية غياب العدل عن كوكبنا. هي عار البشرية…. وهي خير دليل على موت ضمير هذا العالم.
آه من جرح ومجروحين.. جرح لا يراد له ان يبرأ.. ومجروحون لا يريد احد ان يسمع صراخهم. مجروحون يُتاجر بهم، يُستغلون، يُباعون ويُشترون، يتقاتلون داخل مخيماتهم كما تتقاتل الطيور الجائعة في قفص مزدحم.
يا لعار صبرا وشاتيلا.. يا لعار كفر قاسم… يا لعار دير ياسين.. ألم يبق هناك في العالم كله سوى مقبرة واحدة ليشعل فيها الزعماء والرؤساء شعلة التاريخ والذكرى؟!
فلسطين عار العالم في القرن الواحد والعشرين. شعب يعيش على الفتات، وكوفية تتغير ألوانها كلما تغيرت الظروف والمراحل.. وكأن لكل زمن كوفيته!!
مات الختيار مسموماً… لكن زهرته تكبر… ومات الدكتور حزناً، لكن تركته تبقى… ومات درويش، لكن اشعاره تبقى للأجيال. استشهد ألآلاف من أجل «أرض البرتقال الحزين». لكن سنابل القمح تتكاثر وتنمو في الحقل الأصيل. والفزاعات المصنوعة من القش وسط الحقول، لم تعد تخيف رغيف الخبز. ومغتصبو الأرض، يخافون الليل، لأنه جلاّب التكاثر.
كابوس اسمه فلسطين…. يسرق منهم النوم الهنيء.
ومن ارض الشام لنا «دمع لا يكفف يا دمشق». لنا جفاف دموع العين، ولنا حرقة القلب، ووصول النار الى الخيمة الأخيرة.
من ارض الشام، آخر نسمة ياسمين، وآخر باب حارة، وآخر رفة عين. لنا التفجع على كل الموتى، على كل الدمار، على كل هذه الوحشية.
في ارض الشام، نبت لنا جمال كثير: كان لنا عجقة الحميدية وتمترس التاريخ في ازقتها، وفي الجامع الأموي كان لنا الماضي يفتح ذراعيه مرحبا تحت طيور الحمام، وفي باب توما كان لنا الحب والوجوه النيرة والأرصفة الكريمة. كان لنا في مقاهي ومطاعم الشام أنس وأمن وأمان. وكان لنا أيضا شوك وسط أزهار الياسمين!
لم نفهم وجعك يا شام.. .ولم ندخل الى أسرار قلبك. بقينا كالعاشق الفاشل: ينتظر حبيبته في المقهى، وفي يده وردة حمراء.. وهي لن تأتي.
يأتينا في بيروت حزن كثير من أرض الشام. تحزن ان ترى من لجأت اليه في الشدة، وداره شاسعة، يلجأ اليك في شدته… ودارك ضيقة… وتبقى القلوب كبيرة.
الحزن الشامي يحل علينا مرّاً ثقيلاً بدل رائحة الياسمين.
مرارتنا ناجمة -ونحن شعوب اختبرت الحروب ولم تتعلم- عن معرفتنا ان الحروب لا تخرج منتصرين وليس فيها اكاليل غار. الحروب جلابة المآسي والكره والتعصب والحقد والدمار، خاصة في النفوس والعقول.
نحن سكان «مشروع هذا الوطن» -على قلتنا وتنوعنا- نعرف حق المعرفة أن بناء البشر اصعب بكثير من بناء الحجر. انتهت الحرب عندنا (شكليا)، لكنها لا تزال مستعرة في نفوس وعقول الناس. لماذا؟ لأننا فشلنا في اعادة بناء الهوية الوطنية، واكتفينا بالشكليات وتبويس اللحى….
محزن احتضار الأصالة الشامية، لأنه احتضارنا. ففي ارض الشام أصالة وتثبت بالجذور وعدم اغترار أو تماه بالثقافة الغربية.
كان لي صديقة تعيش في رأس بيروت، اصلها من جبل السويداء. كانت تقول لي:« احتمل ان يسخروا من هويتي الدينية… لكنني لا احتمل ان يسخروا من هويتي السورية».
في بيتي ساعة مثبتة على الحائط اشتريتها من سوق الحميدية منذ 15 عاماً، صنعتها أيدٍ شامية. الساعة لا تزال تعمل. أرجو ان لا تتوقف.
الى اللقاء يا أهل الشام…. بعد عام أو أكثر.
بين العراق والشام وفلسطين سلسلة ثقيلة من الحزن والأسى تلتف حول اعناقنا… وتبقى الجوهرة: فلسطين.
زياد كاج
أمين سر مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت
Leave a Reply