نبيل هيثم – «صدى الوطن»
تيران وصنافـير سعوديتان. هكذا حسمت السلطات المصرية، رئاسة وحكومة وديبلوماسية، أمر الجزيرتين المثيرتين للجدل فـي العلاقة التاريخية المعقدة بين مصر والسعودية، غداة توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، خلال زيارة الملك سلمان الى القاهرة.
وبصرف النظر عن الجدل القانوني والتاريخي المستعر حالياً فـي مصر، على وجه الخصوص، بشأن هوية تيران وصنافـير، والتي بلغت مستوى تشبيه الرئيس عبد الفتاح السيسي بـ«عوّاد» الذي «باع أرضه»، فـي إشارة إلى الأوبريت المعروف منذ الستينات، فإن كل المؤشرات تشي بأن الاتفاقية الحدودية تسير على طريق المصادقة البرلمانية، اللهمّ الا اذا افضى الغضب الشعبي المصري الى الخروج فـي تظاهرات غاضبة ضد ما يسمّيه بعض الناشطين «خيانة الأرض»، وهو امر يبدو اقرب الى المستحيل لأسباب عدّة، أبرزها الاعتبارات الامنية، وتضعضع المعارضة المصرية، والأهم من ذلك، نجاح الآلة الاعلامية الرسمية فـي تنفـيس الاحتقان لدى عموم الشعب المصري، وخصوصاً بعد خروج السيسي بخطاب مطوّل أكد فـيه أن «مصر لم تتنازل عن حقها» وأنها فـي الوقت ذاته «لا تأكل حق أحد».
وبصرف النظر كذلك عن الحجج القانونية والتاريخية التي يقدّمها المؤيدون للاتفاقية والمعارضين لها، وهي حجج تبدو حتى الآن متساوية، فـي ظل تعدد الرؤى القانونية فـي قضايا حساسة على غرار ترسيم الحدود البحرية وملكية الجزر.
المقصود بتلك التداعيات أن السعودية، منذ لحظة اتمام الإجراءات الدستورية فـي مصر بشأن المصادقة على الاتفاقية الحدودية، ستصبح شريكاً فـي الترتيبات الامنية المنصوص عليها فـي معاهدة كامب ديفـيد بين مصر وإسرائيل، والواردة تحديداً فـي الملحق الأمني.
ومعروف انه بموجب الملحق الأمني فـي معاهدة كامب ديفـيد، تخضع مصر للكثير من القيود العسكرية والأمنية، ولعل أبرزها وجود قوات أجنبية (غير أممية) تحت قيادة أميركية، لمراقبة مدى التزام الجيش المصري ببنود معاهدة الصلح، وهو أمر يتعلق تحديداً بعديد القوات المسلحة المسموح بتواجدها فـي المناطق «أ»، «ب»، و«ج»، بحسب التقسيم المعتمد، والتي تتمركز فـي قاعدتين عسكريتين، هما قاعدة الجورة (شمال سيناء) وقاعد شرم الشيخ (جنوب سيناء)، بالاضافة الى نقاط مراقبة، من بينها نقطة مراقبة بحرية فـي جزيرة تيران تحديداً لضمان حرية الملاحة للسفن الإسرائيلية فـي منطقة ممرات (مضائق) خليج العقبة.
خطوة نحو التطبيع
يعني هذا الأمر من الناحية العملية سقوط ورقة التين عن مملكة آل سعود فـي ما يخص العلاقات مع إسرائيل. واذا كانت السعودية لا تعترف رسمياً بإسرائيل، ولم توقع اتفاقات سلام مع الكيان الصهيوني، كما فعلت بعض الدول العربية الأخرى، فإنها بإصرارها على استرجاع تيران وصنافـير تفتح الباب أمام تنسيق أمني وعسكري مع تل أبيب، ما قد يفضي فـي نهاية الأمر الى تطبيع العلاقات بين الطرفـين.
حتى الآن، لم يصدر أي كلام رسمي عن الجانب السعودي بشأن هذه الترتيبات، ما عد تصريحات لوزير الخارجية عادل الجبير، بعد توقيع الاتفاقية الحدودية، أشار فـيها الى أن السعودية ملتزمة بالالتزامات التي أقرتها مصر أمام المجتمع الدولي فـي «كامب ديفـيد»، بما فـيها وجود قوات متعددة الجنسيات على الجزيرتين للتأكد من عدم استخدامهما فـي أغراض عسكرية، وحماية حرية الملاحة فـي مضيق تيران، برغم تأكيده على أن السعودية لن تتفاوض مع إسرائيل مجدداً بهذا الشأن.
إلا أن صحيفة «الأهرام» (الحكومية) فـي مصر كانت واضحة فـي شرح الواقع الجديد، حين أشارت الى أن اتصالات مصرية إسرائيلية تمت أخيراً حول الوضع فـي سيناء، وأن الجانب المصري اطلع الجانب الإسرائيلي على التطورات الخاصة بتوقيع مصر والسعودية اتفاقية تعيين الحدود البحرية فـي خليج العقبة، وعودة السيادة على جزيرتي تيران وصنافـير إلى السعودية، ومايترتب على ذلك من آثار تمس معاهدة السلام الموقعة بين مصر وإسرائيل عام 1979، فـي ما يعد بمثابة تعديل لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ويستوجب أن تذهب به حكومة إسرائيل إلى الكنيست لإقرار تعديل المعاهدة.
والأكثر وضوحاً فـي ذلك، كان وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون، الذي قال إن المملكة العربية السعودية، تعهدت بنفس التزامات مصر، وما تنص عليه معاهدة السلام الإسرائيلية-المصرية عقب نقل سيادة جزيرتي تيران وصنافـير فى البحر الأحمر إليها.
الحديث عن نقل الالتزامات لا يمكن فهمه من زاوية واحدة، فإذا نظرنا الى القانون الدولي بشكل مجرّد، فسنكتشف أن السعودية ستلتزم ببنود «كامب ديفـيد» فـيما يخص جزيرتي صنافـير وتيران وحدهما، وليس كل بنود المعاهدة، التي تحتوي على بنود كثيرة، وتستطيع أي دولة كطرف ثالث وليست طرفاً فـي المعاهدة، أن تلتزم بالتزامات أي طرف من الأطراف دون الاعتراف بكل بنودها.
لكن القانون الدولي لا يبدو كافـياً، فـي هذا الحالة، للتنبؤ بالمقاربة السعودية لهذا الملف. وفـي هذه الحالة، لا بد من الركون الى السياسة، كونها هي المحرّك فـي مملكة غير دستورية.
مثلث إقليمي
ولعل توقيت الخطوة السعودية-المصرية، أو بالأصح السعودية فقط (طالما أن مصر فـي ظل أزمتها الاقتصادية باتت أكثر استعداداً للقبول بشروط آل سعود)، والإطار الاقليمي العام للاتفاق الحدودي بين الدولتين، يفسر الكثير من التساؤلات حول السلوك السعودي المرتقب إزاء إسرائيل خلال الفترة المقبلة.
وفـي هذا السياق، لا بد من العودة الى التاسع عشر من آب (أغسطس) العام 2015، حين صرّح مسؤولون أميركيون رفـيعو المستوى لوكالة «أسوشيتد برس» بأن الادارة الاميركية تراجع موقف قوات حفظ السلام الدولية فـي سيناء، والبالغ عددها نحو 1750 جندياً ومراقباً، وبأن هذه المراجعة ستقود فـي نهاية المطاف الى سحب القوة الدولية، بالنظر الى تعاظم الأعمال الإرهابية فـي شبه الجزيرة المصرية، بعد بروز ما يُسمى بـ«ولاية سيناء»، الفرع المصري من تنظيم «داعش».
لم تكد تمضي أيام قليلة على هذه التصريحات، حتى استهدف «ولاية سيناء» دورية للقوة الدولية فـي منطقة الجورة (شمال سيناء) بعبوتين ناسفتين، أدت الى اصابة ستة عناصر، بينهم اثنان أميركيان.
هذه التطورات، دفعت الولايات المتحدة على ما يبدو الى اتخاذ قرار برفع يدها تدريجياً عن سيناء، وهو قرار لم يعلن بطبيعة الحال، لكن المؤشرات الميدانية فـي شبه الجزيرة المصرية توحي بأنه متخذ بالفعل. ومن بين هذه المؤشرات تركيب معدات، توحي بأن الولايات المتحدة تتجه الى الاستعانة بالتكنولوجيا الحديثة لمراقبة الحدود، بدلاً من العامل البشري.
وفـي هذا السياق، تأتي الصفقة المصرية-الفرنسية بشراء حاملتي الطائرات «ميسترال» بتمويل خليجي. ويرى الكثير من الخبراء العسكريين أن الأسطول المصري ليس فـي حاجة الى هاتين الحاملتين الا فـي حال وجود خطة أو توجه الى توسيع نطاق عملياته البحرية.
وفـي ظل الحرب التي تخوضها السعودية فـي اليمن، والهادفة الى السيطرة على مضيق باب المندب، والتوجه السعودي الى قيادة حلف عربي أو إسلامي ركيزته مصر، والحديث عن انسحاب القوة الدولية من سيناء، يمكن فهم سبب التمويل السعودي لصفقة «الميسترال» (أكثر من مليار دولار)، ليتضح أن ثمة توجهاً اميركياً الى تسليم السعودية مهمة شرطي البحر الاحمر ومضائقه.
ولا بد فـي هذا الاطار، من استحضار فقرة من المقال المطوّل الذي نشره الصحافـي جيفري غولدبرغ فـي صحيفة «اتلانتيك» قبل أسابيع، بعنوان «عقيدة أوباما»، والذي أكد فـيه الرئيس الاميركي بوضوح انتهاء عصر التدخل الأميركي العسكري فـي الشرق الأوسط، والذي يقابله دعم حلفاء اقليميين يأخذون على عاتقهم مواجهة الأخطار المختلفة، والمقصود بذلك مثلث أمني إقليمي يضم السعودية وإسرائيل ومصر.
Leave a Reply