هو ابن وجيه إحدى قرى لبنان النائية التي يعمل أهلها في مشقة وصمت، ويقدمون نتاج عملهم للوجيه “الذي يملك الأرض” ليس بالوراثة عن آبائه وأجداده، بل لأن السلطة التركية سجلتها له باسمه في الطابو، نظير ولائه لها.
دخل المدرسة بعد أن أخبر أبوه الفلاحين بأنه سيعلم لهم ولده الحبيب، فلا حاجة بهم إلى أن يشغلوا بالهم بتعليم أولادهم، لأنه سيتعلم عنهم ويقيهم شر الانتقال من حقوله الى المدراس.
في المدرسة تركزت عداوة الولد الضارية للحساب والإنشاء والتاريخ والجغرافيا والعلوم والرياضة وكل معرفة وكل جمال. وبدأت تبرز أنيابه وتطول مخالبه وتنمو قرونه. ووجد فيها –أي المدرسة- ميدانا فسيحا أمام منطق المال الذي يغتصبه أبوه “الوجيه” من أهل القرية وبمساندة القانون. فكان اذا سقط في أي امتحان، يفتح جيوبه أمام أنظار المدير، فيحصل على النجاح والتهنئة وعلى البركة والدعاء بطول الجهل والبقاء.
بعد سنوات عديدة قضاها في المدرسة، خرج منها كحجة قاطعة وساطعة للمناعة الآدمية ضد المعرفة والعلم والذوق الإنساني، وتطبيقا للخطط الموروثة من عهد المماليك في لبنان، عين هذا هذا المخلوق في وظيفة حكومية حساسة، إكراما لوجاهة أبيه وخدمة للوطن.
انقضت عدة سنوات جمع فيها أموال عديدة، أخذها من الوطن كله مكافأة لنفسه على جهله في الخدمة، وأضافها إلى أموال قديمة أخذها أبوه من أهل القرية مكافأة لنفسه على الوجاهة.
تلاحقت السنوات، وتراكمت المكافآت، وورثها ابنه عنه، -قرة عينه- الذي صار يظهر في المجتمعات كالطاووس الذي انتقل ذيله من مكانه الطبيعي الى بين عينيه. والجهل الوراثي القديم قد تحصن فيه بجهل جديد، وراء جبل من الغرور والتكبر من أجل منصب أعلى وأكبر من منصب جده وأبيه خدمة للوطن.
هرب صاحبنا مع من هربوا واختبأ مع من اختبأوا في جنيف وباريس، عندما داست الأقدام السوداء تراب الوطن ووصلت الى بيروت.
في نفس الوقت ومن أهل تلك القرى النائية، تجلى جيل من الرجال الصادقين مع الله ومع الوطن، كل الوطن، رجال لم يدخل العديد منهم الجامعات وشراء الشهادات ولم يسرقوا الوطن تحت بند المكافآت. رجال قاوموا بأجسادهم وأرواحهم حتى كسروا أيدي وأرجل، وقهروا أصحاب القلوب الغليظة التي كانت لا تقهر.
وحدهم الشهداء هم السابقون والخالدون. الطغاة والجلادون والجهلة يغادرون الدنيا متأخرين. سوف تكتب الأيام بأحرف من نور أسماء الشهداء الأبرار العظام مثل الشهيد حسن جغبير وابنه الشهيد أحمد حسن جغبير الذي أهدى لهما السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير مجد وفخر الشهادة في سبيل الوطن. الوطن الذي سيبقى وسيخلد بهم، بينما غلمان وصبيان السياسة في ذلك الوطن يعيثون فيه تمزيقا وفسادا جيلا بعد جيل.
Leave a Reply