كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لا تكاد المؤسسة العسكرية فـي لبنان تخرج من أزمة يفتعلها لها السياسيون، حتى يورطونها فـي أخرى، وكان موضوع دفع الرواتب للجيش، هو ما شغل ضباطه ورتباءَه وأفراده، تحت ذريعة نقل اعتمادات، وعدم صدور الموازنة العامة منذ عشر سنوات، ويتم الصرف على قاعدة الإثني عشرية، وهو ما يضع الدولة فـي مصاف الدول الفاشلة، لأن الموازنة شأن أساسي فـي هيكلية المؤسسات التي ترتكز عليها لتسيير شؤونها، وتنفـيذ برامج إنمائية، وتحقيق استثمارات وتحفـيز النمو الإقتصادي، وضبط الوضع النقدي.
وفـي الوقت الذي تتعطل فـيه المؤسسات الدستورية ويحدث شغور فـي رئاسة الجمهورية، ويُمدّد لمجلس النواب، وتُشل الحكومة، تبقى المؤسسة العسكرية متماسكة وتقوم بواجبها الوطني، وإن شابها تقاعد ضباط فـي المجلس العسكري وعدم اكتمال النصاب القانوني فـيه، والتمديد لمرتين لكل من قائد الجيش العماد جان قهوجي، ورئيس الأركان اللواء وليد سلمان، والأمين العام لمجلس الدفاع الأعلى اللواء محمد خير، فإن السبب يعود الى الطبقة السياسية التي تتلاعب بالجيش وتريد له قائداً يخدم أهدافها السياسية والفئوية، ويكون من حصتها الطائفـية، لا أن يكون من الضباط الأكفاء الذين يترفعون بالرتب وفق سجله العسكري والمناقبي، وهو ما ينطبق على المؤسسات الأمنية الأخرى، كما القضائية والإدارية والدبلوماسية، لتحويلها الى مزارع لها، وهو الوصف الذي وقع على «الدولة المزرعة»، لا دولة المؤسسات والقانون.
فالتعيينات داخل الجيش -كما فـي قوى الأمن الداخلي- لعبت التجاذبات السياسية فـيها، حيث طالب العماد ميشال عون بقائد فوج المغاوير السابق العميد شامل روكز قائداً للجيش قبل بلوغه سن التقاعد، فتمّ الإعتراض عليه لحسابات سياسية، إذ رفضه «تيار المستقبل»، لتحالف «التيار الوطني الحر» مع «حزب الله»، فلا يمكن أن يكون على رأس المؤسسة العسكرية مَن هو مع المقاومة والمحور الإقليمي الذي تنتمي إليه من إيران الى سوريا الذي انضمّت إليه روسيا على المستوى الدولي فـي مساندة النظام فـي سوريا، فـي حربه على الإرهاب، وأن موقع قائد الجيش حسّاس ودقيق فـي لبنان ذاي النظام الطائفـي، وأن وضع الجيش مع هذا الفريق السياسي أو ذاك، أو انحيازه الى هذه الطائفة أو تلك، يؤدي به الى الإنقسام والتشرذم كما حصل فـي مراحل سابقة وقع فـيها لبنان بأزمات وحروب داخلية، أدّت الى فرط الجيش وتوزعه ألوية وأفواجاً على الطوائف والمذاهب والأحزاب، وقلة قليلة منه بقيت على ولائها للشرعية، وإلتزمت الثكنات والمراكز العسكرية أو وزارة الدفاع، ودفعت المؤسسة العسكرية ثمناً لهذا الإنقسام، على مستوى وحدة الجيش وتراتبيته، وإن كان يعاني من عدم وجود عقيدة قتالية له، ساهمت فـي أن يتدخل السياسيون به، ويتلاعبون بمصيره، والإختلاف حول دوره ومهامه، فـي مواجهته للعدو الإسرائيلي، أو فـي استخدامه بالداخل اللبناني لصالح الحكومة والنظام السياسي.
ولقد شكّلت مسألة التعيينات حالة من التضعضع، داخل الجيش، وأفقدته معنوياته، حتى سجلت خرقاً سياسياً لصفوفه، فباتت الترقية فـيه منوطة بالإنتماء السياسي والحزبي، ولم يعد المعيار العسكري، حيث شرّع التدخل السياسي الأبواب، للرياح الطائفـية والسياسية للدخول الى داخل المؤسسة العسكرية التي تحظى بإجماع شعبي لبناني حولها، كما فـي دعم دولي وإقليمي لها، لأنها تحافظ على الأمن والإستقرار ووحدة الوطن، الذي يتهدده فـي البقاع، الذي يخوض الجيش يومياً معارك معه فـي جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع، وكذلك مع الخلايا النائمة فـي الداخل، حيث يفكك شبكات إرهابية، وبشكل دائم، وفـيها أخطر المطلوبين من متشددين إسلاميين، فكان الحصاد خلال الأشهر الأخيرة وفـيراً، إذ اعتقلت مديرية المخابرات فـي الجيش، إضافة الى نشاط وجهد أجهزة الأمن العام وقوى الأمن الداخلي وأمن الدولة، عشرات العناصر الإرهابية والمتطرفة.
فهذه الأجهزة الأمنية، والجيش منها، تقوم بعمل استخباراتي وعسكري، هو محط تقدير الدول الكبرى والصغرى، إذ يعتبر الجيش من الجيوش المميزة فـي محاربة الإرهاب منذ عقود، وقبل أن تنخرط دول فـي محاربة الجماعات الإرهابية وتحديداً تنظيم «القاعدة» ومتفرعاته من «داعش» الى «جبهة النصرة»، وكانت أولى مواجهات الجيش فـي جرود الضنية عام 2000، مع «جماعة التكفـير والهجرة» برئاسة بسام كنج.
وهذا التطور النوعي فـي محاربة الجيش للإرهاب والذي ظهر فـي مخيم نهر البارد ثم فـي عرسال، دفع بالدول للتقدم لمساعدته تدريباً وتسليحاً، وحصل الجيش على هبات من أميركا ودول أوروبية وآسيوية تتعلق بتسليح الجيش ورفع جهوزيته العسكرية، فحصل على معدات عسكرية متطورة، ويسعى الى تسليح نوعي بالصواريخ والمروحيات كما بالقذائف الصاروخية والمدافع والمدرعات، وقدّمت السعودية مبلغ أربعة مليارات دولار كهبة، ثلاثة منها الى فرنسا لتسليح الجيش، لكن مازالت الإجراءات التقنية تؤخر دفع المبلغ، مما يعرقل تنفـيذ المطلوب.
لذلك جاءت قضية تأخر دفع رواتب العسكريين لتكشف عن أهداف سياسية لكل الأطراف، تحاول أن تتلاعب بالمؤسسة، البعض لإستمالتها نحو مشروعه، بما يعرّضها للإنقسام، وفريق يريدها أن تنأى بنفسها عن الصراع الداخلي بعد أن حاول بعض نواب «المستقبل»، تظهير دورها وكأنه مع «حزب الله» ضد «السّنّة»، وهو أخطر ما وُجّه إليها، فـي محاولة لشق صفوفها، وتحطيم معنوياتها، وهذا ما سهّل على بعض الأفراد لا يتعدون الخمسة إلى العشرة، من الإلتحاق بتنظيمات إرهابية تكفـيرية، ساهم المناخ السياسي والطائفـي التحريضي، فـي تحقيق ذلك.
فمسألة الرواتب تبدو تقنية وقانونية، لكنها تخفـي ما وراءها، لجهة منع وصول قائد الجيش الى رئاسة الجمهورية، كما فـي تعطيل دور المؤسسة العسكرية، بمواجهة الإرهابيين، وقد حققت خلال الأسابيع الأخيرة، إصابات مباشرة فـي صفوفهم فـي جرود عرسال، فقتلت قادة منهم كانوا يعقدون اجتماعاً لهم، بعد رصد دقيق، كما شلّت حركة تحركاتهم العسكرية باصطياد سياراتهم ووقوعها فـي كمائن للجيش الذي بات فـي موقع الهجوم وليس الدفاع بعد حصوله على مناظير ليلية، وأبراج مراقبة، وأجهزة رصد وتنصّت متطورة، تراقب حركة المسلحين الذين باتوا فـي موقع عسكري صعب، وأصبحوا تحت مرمى نيران الجيش.
وهنا يُطرح السؤال، حول مَن يعمل لإدخال الجيش فـي التجاذبات السياسية، وزجّه فـي صراعات داخلية كانت دوماً وبالاً ليس على المؤسسة العسكرية، بل على لبنان، الذي كانت تحكمه الميليشيات والعصابات المسلحة، مع فقدان الأمن الرسمي فـيه الذي تؤمنه المؤسسات الرسمية، حيث لم يعد بإمكان اللبنانيين العودة الى زمن الحرب، التي كادت أن تقع منذ العام 2005 وبعد اغتيال الرئيس رفـيق الحريري، وانسحاب الجيش السوري، لو لم يقم الجيش بمهامه ودوره، ويبقى على مسافة واحدة من الجميع، ساعده فـي ذلك أن القوى السياسية والحزبية، تثق به وبقيادته وعقيدته القتالية، فهو منخرط فـي الصراع ضد العدو الصهيوني وقدم شهداء وجرحى، ولم يعد مكان تشكيك كما فـي مرحلة ما قبل الحرب الأهلية، كما تمكّن من الحفاظ على السلم الأهلي مستنداً الى أن الأطراف اللبنانية ليست قادرة على الدخول فـي اقتتال داخلي، وقد جربته فـي معارك محدودة، منذ مطلع عام 2007، فـي أكثر من منطقة وتسبّب بإذكاء صراع مذهبي سنّي-شيعي، كاد أن يودي باللبنانيين الى حرب مفتوحة، فتراجعوا عنها مع قرار دولي-إقليمي، بمنع حصولها، وكان إتفاق الدوحة تعبيراً عن ذلك، لتندلع فـي العام 2011 أحداث «الربيع العربي» لتصل الى سوريا، التي تتداخل جغرافـياً مع لبنان، كما تفاعلت الأحداث طائفـياً وسياسياً، وحصل إنقسام لبناني حولها، تعاطى معها الجيش بسياسة «النأي بالنفس» داخلياً، لكنه لم يتهاون مع المجموعات الإرهابية، وهكذا أمّن له دوراً وطنياً حظي بتوافق جميع اللبنانيين الذين لم يتمكّن السياسيون من أن يقسّموهم حول الجيش كما فـي مراحل سابقة، لأن البديل عنه هي الفوضى والاقتتال، وهذا ما لا يتمناه اللبنانيون الذين، وقفوا بوجه السياسيين الذين يتدخلون فـي المؤسسة العسكرية لجهة التعيينات والترقيات، أو فـي تأخير دفع الرواتب، وهو الأمر الذي كان منعه الرئيس إميل لحود عندما كان قائداً للجيش، فمنع السياسيين من التدخل بشؤون الجيش، كما تصدى لمحاولة فؤاد السنيورة عندما كان وزيراً للمال للتلاعب بحقوق العسكريين، وهذا كان السبب فـي وقوف أقطاب سياسيين مثل الرئيس الحريري والنائب وليد جنبلاط وغيرهما فـي منع وصول لحود الى رئاسة الجمهورية، لأنه كان سيمنع الفساد فـي المؤسسات، حيث يروي لحود كيف أنه منع رشوة من الحريري له أمام الرئيس إلياس الهراوي لدفع أموال داخل الجيش لإستمالة قيادته وضباطه، ووضع يد السياسيين عليه.
فالجيش الذي يحاول أن يتلاعب السياسيون فـيه، بالتعيينات والترقيات والرواتب، تخطى مرحلة الإنكسار والإنقسام، لأنه بات جيش الشعب الذي يثق به كضامن للسلم الأهلي ووحدة لبنان، ولن يسقطه السياسيون مرة أخرى، لحساب مصالحهم السياسية والفئوية.
Leave a Reply