كمال ذبيان – «صدى الوطن»
في الوقت الذي يتلهّى فيه المسؤولون اللبنانيون بمعضلات تشكيل الحكومة وتقاسم الحصص فيها، يجري العدو الإسرائيلي مناورات عسكرية واسعة في شمال فلسطين المحتلة، على وقع تهديدات قادة الاحتلال بشن حرب مدمّرة أكثر بطشاً من سابقاتها مع التركيز –هذه المرة– على الضاحية الجنوبية لبيروت.
عقيدة الضاحية
التركيز الإسرائيلي على الضاحية، يعود إلى سنوات، وقد ازدادت حدته بشكل ملحوظ خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، وتحديداً منذ وقوف رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، على منبر الأمم المتحدة، حاملاً بيده خارطة تزعم وجود مصانع ومخازن أسلحة لـ«حزب الله» في مناطق مدنية بالضاحية، مثل ملعب الغولف قرب مطار بيروت، ومصنع للصواريخ في الأوزاعي، إضافة إلى عشرات المستودعات الأخرى في أحياء الضاحية. ومؤخراً، زعمت صحيفة «هآرتس» العبرية، وجود مخزن للأسلحة في برج البراجنة، مما يضع الضاحية برمتها تحت خطر التهديد.
ردّ «حزب الله» والدولة اللبنانية، على المزاعم الصهيونية، فنظّم وزير الخارجية السابق، جبران باسيل، جولة ميدانية ضمت عدداً من السفراء الأجانب، لاسيما من لديهم جنود في القوات الدولية العاملة في إطار الأمم المتحدة، وذلك لدحض أكاذيب نتنياهو، فأسقطت الجولة الادّعاءات الإسرائيلية الفارغة، والتي تبين أنها ليست سوى محاولات تضليل وقد تشبه الأكاذيب التي ساقها وزير الخارجية الأميركي الأسبق، كولن باول، أمام الأمم المتحدة، معتمداً على تقارير ووثائق مفبركة بشأن وجود أسلحة دمار شامل في حوزة نظام صدام حسين في العراق، لتشريع الحرب الأميركية على بلاد الرافدين، قبل أن يتبين –بعد سنوات– أن باول كان يكذب بتوجيه من إدارة الرئيس جورج بوش الابن، وقد اعترف بذلك بنفسه، مقراً بأنه ارتكب عاراً عندما أعلن عن الأسلحة التي لا وجود لها.
ورغم أن باول أدان في تصريحاته اللاحقة، تصرفات الإدارة الأميركية وحربها الجائرة، إلا أن ذلك لم يغير الواقع الذي فرضته تلك الحرب بنشر الفوضى في العراق وتهديم مؤسسات الدولة لاسيما الجيش، وسفك الدماء وسرقة النفط والاستيلاء على الآثار، وتحويل بلاد الرافدين إلى ساحة اقتتال مذهبي وعشائري وعرقي، مازالت مفاعيلها قائمة منذ 18 سنة على شكل حروب وصراعات داخلية، أفقرت الشعب الذي لديه أحد أكبر احتياطات النفط في العالم.
ما حل بالعراق، هو بالضبط ما يحاول الكيان الصهيوني أن يفعله في لبنان الذي شهد ثلاثة حروب إسرائيلية في أعوام 1978 و1982 و2006، عدا عن الاعتداءات الواسعة التي حصلت في أيلول 1993 ونيسان 1996. ورغم كل ذلك، لم يستسلم اللبنانيون الذين أسسوا المقاومة وطردوا الإحتلال من بيروت في أيلول 1982، ومن الجنوب في 25 أيار 2000، وصولاً إلى تأسيس توازن رعب لازال قائماً منذ حرب تموز 2006.
الخطر من لبنان
كل الحروب الإسرائيلية على لبنان، لم تمكّن دولة الاحتلال من فرض إرادتها على بلاد الأرز، إذ فشلت محاولة فرض معاهدة سلام عبر اتفاق 17 أيار 1984، والذي وأدته القوى الوطنية في عهد أمين الجميّل، الذي كانت تربط حزبه (الكتائب)، علاقة متينة وعلنية مع إسرائيل، وقد جاء وزير دفاع الاحتلال إلى بكفيا لتعزية والده، مؤسس الحزب، الشيخ بيار الجميّل، بمقتل نجله بشير الذي انتخب رئيساً للجمهورية بقرار إسرائيلي بعدما خاض إلى جانب أرييل شارون الحرب على لبنان، وهو ما يعتبره الدستور خيانة وطنية، يعاقب عليها بالإعدام.
وهذا ما فعله حبيب الشرتوني الذي نفذ حكم الإعدام بنفسه، وفق ما قال للقاضي سعيد ميرزا، مؤكداً أنه مارس حقه بالمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وعملائه.
تلك المرحلة، شهدت صعود المقاومة التي بدأت فعلياً بعد حوالي الشهر من الغزو الصهيوني للبنان، وتحديداً من حاصبيا حيث أطلقت صواريخ «الكاتيوشا» على الجليل الأعلى، لتسقط نظرية «أمن الجليل» التي بررت الاجتياح لإبعاد المقاومة وصواريخها مسافة 45 كلم عن حدود الفلسطين المحتلة أي إلى ما وراء نهر الأولي الذي يصب قرب صيدا.
تلك العملية هزّت الكيان الصهيوني، لاسيما أنها جاءت بعد خروج مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في آب 1982. وإثر ذلك، واصلت المقاومة الوطنية اللبنانية عملياتها في مناطق عدة محتلة من لبنان، قبل أن تنضم «المقاومة الإسلامية» إلى الساحة بمساندة من إيران التي أرسلت خبراء من «الحرس الثوري» لتمكين المقاومة التي سرعان ما أظهرت قدرتها على الردع، وصولاً إلى طرد الجيش الإسرائيلي وعملائه من «ميليشيا لحد» ثم تثبيت توازن الرعب عبر الحدود بعد إحباط حرب تموز 2006، والتي استمرت 33 يوماً دون أن ينجح الجيش الإسرائيلي في تدمير المقاومة وترسانتها الصاروخية التي أمطرت دولة الاحتلال طوال أيام الحرب.
ومنذ ذلك الحين، حافظت المقاومة على سلاحها وزادته كمّاً ونوعاً دون أن يمنعها عن ذلك، القرار 1701 الذي أصدره مجلس الأمن وأوقفت بموجبه العمليات العسكرية في 2006 دون أن يُنهِ حالة الحرب التي أرادتها إسرائيل لفرض «معاهدة سلام» على لبنان المقاوم الذي تبنى نظرية قوة لبنان في «جيشه وشعبه ومقاومته»، وليس «في ضعفه»، كما كان يروّج بيار الجميل.
وإذا كان الخطاب الرسمي اللبناني لا زال يرفض الاعتراف بإسرائيل، إلا أن ذلك لم يمنع ظهور أصوات في مواقع رسمية وحزبية تطالب بتجريد المقاومة من سلاحها تحت شعار حفظ سيادة الدولة وحصر قرار الحرب والسلم بيدها، استناداً إلى القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن.
الخوف الإسرائيلي
مع ثبات المقاومة وتنامي قدراتها العسكرية يزداد القلق الإسرائيلي، حيث يتحدّث قادة العدو عن امتلاك «حزب الله» لترسانة ضخمة من الأسلحة والصواريخ الدقيقة المصنّعة والمخزّنة في الضاحية الجنوبية لبيروت.
إذ تقدّر إسرائيل القوة الصاروخية للمقاومة بعشرات آلاف الصواريخ المتطورة ومنها منظومة الدفاع الجوي الروسية «أس 300» التي أتت من سوريا، وصواريخ باليستية من نوع «فاتح 110» من إيران. كما تقوم الطائرات الإسرائيلية بشن غارات شبه أسبوعية على ما تسميه قوافل لأسلحة قادمة من إيران عن طريق سوريا، عدا عن الجهود الأميركية المستمرة لقطع صلة الوصل هذه عبر انتشارها العسكري على الحدود العراقية السورية.
لكن هذه المحاولات لم تنجح في قطع خطوط إمداد المقاومة، وإن نجحت بعض الغارات في إصابة أهدافها، بحسب تقارير عبرية تفيد بأن «حزب الله» باتت لديه كميات هائلة من الصواريخ المخزنة في أكثر من 28 موقعاً في الضاحية الجنوبية، دون إغفال المخازن المنتشرة في الجنوب حيث تعتبر إسرائيل أن كل منزل هناك، هو مخزن محتمل لأسلحة المقاومة.
وفي كلمة له في ذكرى «القادة الشهداء»، ردّ الأمين العام لـ«حزب الله» على تهديدات قادة جيش الاحتلال، باستهداف المدنيّين اللبنانيين في أيّ حرب مقبلة، بذريعة وجود مخازن أسلحة في مناطق مأهولة بالسكان. وقال نصر الله «إذا قصفتم مدنيّين، فسنردّ على مواقعكم العسكرية بين المدنيّين، وإذا قصفتم قرية، فسنردّ على مستوطنة، وإذا قصفتم مدينة، فسنردّ على مدينة».
ولا شك بأن إسرائيل تتهيب من تكرار تجربة حرب تموز 2006 حين تفاجأت بقدرات «حزب الله» الصاروخية بعد استهداف بارجة «ساعر 5» في عرض البحر، ومجازر دبابات «الميركافا»–الجيل الرابع التي تحطمت أسطورتها على يد صواريخ «كورنيت» الروسية المضادة للدروع التي أحرقت عشرات الدبابات في سهل الخيام ووادي الحجير ومارون الراس.
لكن هذه المرة، مخاوف إسرائيل لا تقتصر على القدرات الردعية للمقاومة بل تتعدادها إلى القدرات الهجومية المتنامية، لاسيما بعد تهديد الأمين العام لـ«حزب الله»، السيد حسن نصرالله، بأن المعركة المقبلة ستكون في الجليل الأعلى، وهذا ما أرعب سكان المستوطنات الشمالية الذين فقدوا الثقة بقدرة جيش الاحتلال على حمايتهم وباتوا يخشون من أن ينتقل الصراع من الحدود إلى الوجود.
هل تقع الحرب؟
المناورات الإسرائيلية المتكررة، والتي فاقت العشر منذ حرب تموز 2006، كلها تحاكي حرباً مقبلة، وكان آخر مناورات «عاصفة البرق» التي أجرتها القوات البرية و«وردة الجليل» لسلاح الجو على الجبهة الشمالية مع لبنان، وهي تدريبات على محاولة صد أي تسلل محتمل لعناصر «حزب الله» إلى داخل الجليل في حال اندلاع حرب لا تبدو مستبعدة.
وإذا كان نتنياهو قد حصل من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على مكاسب سياسية بنقل العاصمة إلى القدس المحتلة والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان وتشريع المستوطنات في الضفة، إلا أنه عجز عن شن أية عملية عسكرية كبيرة طوال السنوات الأربع الماضية، سواء في لبنان أو فلسطين.
ويبدو أن نتنياهو سيضطر إلى التريث مرة أخرى بانتظار جلاء موقف الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن، رغم رغبته بشن حرب على «حزب الله»، هرباً من أزماته الداخلية المتفاقمة عشية الانتخابات الرابعة للكنيست في غضون عامين، على تهم الفساد التي يحاكم عليها والتظاهرات المناهضة له في الشارع منذ حوالي العام.
في الواقع، إن المناورات العسكرية والتصعيد الإعلامي ضد المقاومة وسلاحها الصاروخي، يربك إسرائيل بالدرجة الأولى، فهو يزيد من المعارضة الداخلية لأي حرب محتملة على لبنان بسبب الأكلاف البشرية والاقتصادية والعسكرية التي قد تترتب عليها.
صحيح أن ماكينة الحرب الإسرائيلية قادرة على تدمير لبنان لكن دولة الاحتلال ستكون مكشوفة أمام الترسانة الصاروخية للمقاومة، القادرة على ضرب أية بقعة من فلسطين المحتلة بدقة متناهية، من الجليل شمالاً إلى النقب جنوباً، ناهيك عن أن المعركة قد لا تنحصر هذه المرة على جبهة واحدة، بل ستتسع إلى غزة والجولان… وإذا ما غامرت إسرائيل بشن حرب ضد إيران، فإن الصواريخ الباليستية الإيرانية ستكون جاهزة للرد، رغم المحاولات الفرنسية–الأميركية لوضع هذه الصواريخ على جدول التفاوض لإحياء الاتفاق النووي، وهذا ما ترفضه طهران.
Leave a Reply