نبيل هيثم – «صدى الوطن»
الجيش السوري فـي قلب تدمر. هو انتصار استراتيجي للجيش السوري، او بالأصح للتحالف السوري-الروسي، فـي المعركة ضد الإرهاب، تقابله هزيمة استراتيجية ايضاً لتنظيم «داعش»، الذي مثلت سيطرته على المدينة التاريخية قبل نحو العام، تأكيداً للشعار الشهير: «باقية وتتمدد».
الانتصار العسكري فـي تدمر جاء مفاجئاً للجميع.
هي مفاجأة لا تقتصر على جانب واحد، فثمة مؤشرات عدّة توحي بأن عودة المدينة التاريخية الى كنف الدولة السورية تمثل نقطة تحول استراتيجية بكل المعايير.
أهم هذه المؤشرات، هو ان هذا التحول الميداني يعكس انتقال المعركة الكبرى ضد «داعش» الى مستوى متقدم جداً، وربما غير مسبوق، منذ بدء الصراع السوري، وحتى منذ بدء العملية العسكرية الروسية فـي سوريا.
هذا المستوى المتقدم تبدّى فـي السقوط المدوي لتكفـيريي «داعش» فـي تدمر، وذلك بعد أسبوع -أو أكثر قليلاً- من بدء الحملة العسكرية السورية، المدعومة من الطيران الروسي، لاستعادة السيطرة على المدينة التاريخية.
ولا يمكن فهم هذه الحصيلة، من الناحية العسكرية، إلا بالنظر الى الطبيعة الجغرافـية لجبهة تدمر، فمعركة استعادة السيطرة على المدينة التاريخة، تطلبت قتالاً شرساً فـي منطقة صحراوية مكشوفة، بخلاف مناطق القتال الجبلي أو المديني فـي جبهات أخرى، كأرياف درعا ودمشق وحمص وحلب واللاذقية، ما يخلق صعوبات جمّة، تجعل تحقيق انتصار عسكري أمراً يقترب من الاستحالة لأي جيش نظامي، خصوصاً فـي ظل سيطرة تنظيم مثل «داعش» على مرتفعات استراتيجية فـي تلك المناطق، كما هي الحال بالنسبة الى قلعة ابن معن المطلّة على تدمر.
وللتدليل على ذلك، يبدو مفـيداً سرد بعض الملاحظات التي نقلها الينا صحافـي روسي، واكب العملية العسكرية، حول المجريات الميدانية لعملية تحرير تدمر.
أولى الملاحظات التي يسردها محدّثنا الروسي، فـي جلسة خاصة بعد تحرير تدمر، أن الجيش السوري بدأت يعتمد تكتيكاً عسكرياً جديداً فـي القتال ضد «داعش».
هذا التكتيك العسكري، يقوم على تشكيل فرق عسكرية نخبوية صغيرة من الجيش السوري، قادرة على خوض حرب عصابات أو حرب شوارع، يختلف أسلوب قتالها عن أسلوب الجيش النظامي.
انطلاقاً من هذا التكتيك العسكري الجديد كان مفاجئاً للمجموعات «الداعشية» المتمركزة فـي تدمر، بحسب ما يقول الصحافـي الروسي، مشيراً الى ان مراقبة مجريات هذه المعركة، بعين عسكرية، توحي بأن هذا التكتيك الجديد تطلب تخطيطاً واعداداً معقدا وطويلاً، ربما استغرق أشهراً طويلة، خصوصاً ان تلك، هي المرّة الاولى التي تشهد العمليات القتالية للجيش السوري وجود مجموعات عسكرية خاصة (كوماندوس) تم انتقاء عناصرها من وحدات عسكرية متعددة المهمات، بحيث تؤدي مجتمعة دوراً موحداً، ومن بينها «صقور الصحراء» (قتال صحراوي)، ومغاوير البحر (تدخل سريع)، و«الامن العسكري» (حرب شوارع)، وبمساهمة فعالة من وحدات عسكرية غير نظامية، تضم مقاتلين من «حزب الله» و«نسور الزوبعة» التابعة لـ«الحزب القومي السوري الاجتماعي»، الى جانب وحدات أخرى من لواء «فاطميون» الايراني وقوة كوماندوس روسية.
الجديد فـي التكتيكات العسكرية للجيش السوري أيضاً تبدت فـي طريقة اختراق المدينة من الجنوب والشمال، من قبل كل الوحدات القتالية الخاصة، بقيادة ضباط ميدانيين من الجيش السوري، وبتنسيق كامل مع ضباط المجموعات الاخرى، وتواصل سريع مع غرفة العمليات المشتركة، التي كانت تتولى تنظيم التغطية النارية من البر (مدفعية الجيش السوري)، وجواً (الطيران الروسي).
تحول استراتيجي
واذا كانت معركة استعادة تدمر قد اتسمت بتحولات كبرى على المستوى التكتيكي فإنها تبدو كذلك على المستوى الاستراتيجي.
ولا بد من التذكير، فـي هذا الاطار، بأن إرهابيي أبي بكر البغدادي استماتوا، قبل عام، للسيطرة على تدمر، وجعلوها مربط فرس لتنظيمهم التكفـيري، فحين غزاها التنظيم قاطعاً بأرتاله عشرات آلاف الكيلومترات الصحراوية تحت أنظار قوات التحالف الذي تقوده واشنطن والذي كان قد بدأ عملياته فـي الأجواء السورية، كان الهدف الرئيسي من احتلال تدمر هو التأكيد على أن «دولة الخلافة» المزعومة «باقية وتتمدد»، ليس جغرافـياً فحسب، وانما حضارياً، ومن هنا فإن تفجير الإرهابيين الكثير من الكنور التاريخية فـي المدنية الأثرية كان رسالة واضحة بأن هذه الدولة المزعومة قادرة حتى على محو الذاكرة الحضارية، بما يعنيه ذلك من تدمير للدول الكثيرة التي تعاقبت على سوريا.
وفضلاً عن محاولات «داعش» فصل المحافظات السورية، عبر السيطرة على نقطات استراتيجية، فإن تدمر كانت تشكل عقدة فـي المفهوم العسكري. ومن الناحية السورية، تمثل السيطرة على تدمر تأمين خطوط الإمداد بين بعض المناطق التي يسيطر عليها التنظيم المتطرف فـي ريف حمص الشرقي، على غرار القريتين ومهين وأطراف جبال الحسياء، وبين معاقله فـي الرقة، أي بين منطقة الحدود السورية-العراقية وريف حمص من جهة، وبين البادية والحدود الاردنية من جهة أخرى. وبذلك مثلت مدينة تدمر عقدة الربط ومنصة انطلاق لهجمات تكفـيريي أبي بكر البغدادي بين المنطقة الوسطى وباقي المناطق حتى الحدود العراقية شرقاً والأردنية جنوباً، وحتى الشمال بإتجاه الرقة ما يعني تقليص قدرة الجيش السوري على المناورة والتحرك فـي تلك الإتجاهات الإستراتيجية المهمة.
وبالنسبة الى الجيش السوري، فإن تحرير مدينة تدمر يجعلها منصة الإنطلاق الفعلية لعمليات تطويق وتحرير آخر معاقل «داعش» فـي الشرق والشمال السوري (دير الزور والرقة)، ما يجعل التنظيم الإرهابي على وشك خسارة مدوية، تقدرها مصادر عسكرية بنحو ثلاثين ألف كيلومتر مربع من الأراضي الخاضعة لسيطرته، كما ان استعادة المدينة التاريخية يحرم مجموعات «داعش» فـي الوسط السوري (ريف حمص الشرقي) من أية خطوط إمداد، وسيعزلها فـي جيوب ضيقة وهو ما حدث بمدينة القريتين المحاصرة حالياً من قبل الجيش السوري.
كما أن قربها من حقول النفط والغاز الكبيرة فـي سوريا سيمكن الجيش السوري من تعزيز سيطرته على أهم موارد بقاء و تمدد التنظيم الإرهابي، عبر حرمانه من عائدات النفط التدمري، وسيضمن للجيش السوري ايضاً امكانية الوصول إلى آخر معبر سوري حدودي مع العراق (التنف) الذي يكتسب أهمية استراتيجية كبرى بإعتباره إحدى نقاط الإتصال و الإمداد بين بادية العراق و سوريا.
معاني الانتصار
الاهم من ذلك، ان الانتصار الإستراتيجي فـي تدمر، يعني من الناحية الأوسع، أن الجيش السوري مع حلفائه وبالغطاء الجوي الروسي، هو القوة الوحيدة المتحررة من القيود الإقليمية والدولية القادرة على قتال «داعش» بفاعلية وسرعة، ويؤكد أن قدرات التحالف السوري-الروسي تتفوق بأشواط على التحالف الأميركي فـي بعض المناطق السورية.
بذلك يكون الجيش السوري قد أحدث انقلاباً جذرياً فـي موازين القوى ومعادلات السيطرة الميدانية، عبر تحقيقه أول انتصار استراتيجي ضد «داعش» من موقع الهجوم، واظهر فاعلية جنوده العالية فـي القتال ضد التنظيم التكفـيري، وقدرتهم على دحره بأسرع وقت وبأقل الخسائر الممكنة.
وعلاوة على ذلك، فإن انتصار تدمر يعني من الناحية السياسية ضرب الكثير من الخطط التي سعى البعض الى الترويج لها، ومن بينها الفدرالية، كما انه ينفـي عن النظام السوري تهمة «التقسيم» التي روّجت اعلامياً باسم «سوريا المفـيدة»، التي جرى تسويقها باعتباره خطة إستراتيجية ينوي بشار الاسد من خلالها العمل على تقسيم سوريا، لتكريس «الدويلة العلوية»، غير أن تحرير تدمر جاء ليؤكد المقولة التي ترددها دوماً القيادة فـي دمشق باسترجاع آخر شبر من الأراضي السورية.
وربما يدفع ذلك، القوى الاقليمية والدولية الى إعادة خلط أوراقها وإعادة ترتيب حساباتها والقيام بمراجعة شاملة لرؤيتها المستقبلية للحرب السورية، ومن هنا سننتظر الأسابيع الثلاثة المقبلة لتعطينا إجابات واضحة عن تغيرات وتطورات سياسية كبرى قد تشهدها الساحة الدولية والإقليمية بخصوص الأزمة السورية.
Leave a Reply