عماد مرمل
لا مبالغة في القول ان الجيش اللبناني يتحمل الجزء الاكبر من وزر هذه المرحلة المفصلية التي يمر فيها لبنان، بكل ما تحمله من تحديات تنتمي الى فئة الوزن الثقيل، بل ان بعضها يكاد يتسم بالطابع الوجودي، كما هو الحال مع التحدي الذي يمثله التيار التكفيري بمسمياته المتعددة.
ووسط الشغور في رئاسة الجمهورية، وتعطيل عمل مجلس النواب، والحساسية المرهفة لوضع الحكومة، والانقسامات السياسية الحادة التي لا تخلو من أبعاد مذهبية.. تبدو المؤسسة العسكرية الاكثر انتاجية والاشد تماسكا والاقوى حضورا، والارقى خطابا، من بين المؤسسات الاخرى المشلولة او المترهلة.
تنتشر وحدات الجيش على مساحة الجغرافيا اللبنانية التي شاءت الاقدار ان تجعلها جزءا من منطقة الزلازل الاقليمية، مع ما يعنيه ذلك من اهتزازات داخلية مستمرة تفرض على القوات المسلحة البقاء في جهوزية مستمرة.
وإذا كان دور الجيوش النظامية ينحصر عموما في الدفاع عن الحدود وحماية السيادة الوطنية، إلا انه في لبنان توسع كثيرا، بحيث أصبح الجيش ينفذ في أحيان كثيرة مهاما داخلية هي في العادة من اختصاص قوى الامن، الى جانب انتشاره على الحدود.
ليس خافيا، ان الوجود السوري السابق في لبنان كان يخفف بعضا من الاعباء عن المؤسسة العسكرية، لكن مع انتفاء هذا الوجود كليا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، تضاعفت المسؤوليات الملقاة على عاتق الجيش الذي وجد نفسه معنيا بحماية الامن والاستقرار على امتداد الاراضي اللبنانية، بدءا من وسط العاصمة الذي شكل آنذاك ساحة «نزال» بين جمهوري 8 و 14 آذار.
ثم جاء القرار الدولي 1701 الذي أوقف حرب تموز 2006، ليُنيط بالجيش الانتشار في منطقة جنوب نهر الليطاني حتى الحدود الدولية مع فلسطين المحتلة، الى جانب قوات الطوارئ الدولية «اليوينفيل»، ما فرض على القيادة في ذلك الحين إرسال آلاف من الجنود الى الجنوب، علما ان الجيش كان قد قدم عددا كبيرا من الشهداء والجرحى الذين سقطوا خلال تصديهم للعدوان الاسرائيلي على لبنان.
وما كادت المؤسسة العسكرية تلتقط انفاسها، حتى اضطرت الى خوض معركة شرسة ضد تنظيم «فتح الاسلام» المتطرف في مخيم نهر البارد، بعدما هاجم مسلحو هذا التنظيم حواجز الجيش المتواجدة في المحيط بشكل مباغت، ما أدى الى استشهاد وجرح عدد من العسكريين.
كانت المعركة قاسية وطويلة، في مواجهة مقاتلين عقائديين، مدربين جيدا ومدججين بالسلاح، فيما اتكل الجيش بشكل اساسي على شجاعة جنوده وضباطه وروحهم المعنوية العالية للتعويض عن النقص الذي يعاني منه على مستوى العتاد النوعي، الى جانب ابتكاره، من «حواضر البيت»، بعض التحسينات على الاسلحة الموجودة بحوزته لتتناسب مع متطلبات المواجهة، على قاعدة ان «الحاجة ام الاختراع».
ربح الجيش الرهان، واقتلع المسلحين من المخيم، لكن كلفة الانتصار كانت مرتفعة.
لاحقا، تكرر سيناريو مشابه في منطقة عبرا الواقعة في محيط مدينة صيدا، حيث خاض الجيش مواجهة متجددة مع عنوان آخر للتطرف، تمثل هذه المرة في أحمد الاسير الذي ذهب بعيدا في التحريض المذهبي وتحضير الارض للفتنة، وصولا الى اعتداء مناصريه على العسكريين، ما دفع القيادة الى إعطاء الاوامر بإنهاء هذه الظاهرة والقضاء عليها بالقوة، وهكذا كان.
من جديد، نجح الجيش في الامتحان، وأجهض الفتنة التي أرادت ان تجتاح لبنان عبر عبرا.
اختبار آخر واجهه الجيش في عاصمة الشمال، طرابلس، التي بقيت طويلا ساحة مشرّعة امام جولات متلاحقة من العنف الدامي، في إطار تصفية الحسابات المحلية والاقليمية، حتى قيل ان هذه المدينة تحولت الى صندوق بريد لتبادل الرسائل التي تفوح منها رائحة البارود. وقف الجيش على خط التماس يحاول حصر الحريق ويمنع تمدده، الى ان نضجت الظروف التي اتاحت له بالتعاون مع قوى الامن الداخلي فرض خطة أمنية أفضت الى اعتقال معظم قادة المحاور. مرة أخرى، كانت المؤسسة العسكرية خشبة الخلاص.
والى جانب احكام قبضته على طرابلس، نفذ الجيش ايضا خطة أمنية في البقاع اللبناني، للحد من عمليات السرقة والخطف التي تفاقمت مؤخرا.
ومع اندلاع الازمة السورية، وتسرب المجموعات التكفيرية الى لبنان، اندفع الجيش الى الخطوط الامامية للحرب على الارهاب، وكانت معركة عرسال التي سقط فيها عشرات الشهداء والجرحى من العسكريين، اضافة الى وقوع عدد منهم في أسر المجموعات المسلحة.
ولئن كانت المواجهة المباشرة قد انتهت بدخول الجيش الى البلدة وخروج المسلحين منها، وهذا إنجاز إضافي للمؤسسة العسكرية، إلا ان أسئلة عدة بقيت معلقة في انتظار إجابات شافية، ومنها:
كيف تمكن مسلحو «داعش» و«النصرة» في البداية من مباغتة الجيش والسيطرة على العديد من مواقعه وخطف بعض جنوده(قبل ان يستعيد المبادرة لاحقا)، علما انه كان معروفا ان جرود عرسال تزدحم بالمقاتلين، وان هناك سيناريوهات معدة لاحتلال قرى مجاورة واختطاف رهائن بهدف مبادلتهم بموقوفين في سجن رومية، وبالتالي كان يفترض ان تكون مواقع الجيش في المنطقة محصنة ومعززة بالوحدات الكافية و«المتخصصة» لصد أي هجوم مسلح.
لماذا أوقف الجيش إطلاق النار قبل ان يُفرج المسلحون عن الأسرى العسكرييين، الامر الذي أفقده ورقة ميدانية قوية؟
وأبعد من التفاصيل الميدانية، فتحت موقعة عرسال من جديد «جروح» الجيش الذي يخوض كل معاركه باللحم الحي، نتيجة النقص الحاد في السلاح النوعي.
والمفارقة ان المجتمع الدولي يحث الجيش على ان يحارب الارهاب، ويحمي الحدود مع سوريا، ويأخذ مكان حزب الله وسلاحه، من دون ان يقدم في المقابل للمؤسسة العسكرية أي دعم حقيقي، يُعتد به، انسجاما مع «الفيتو الاسرائيلي» الذي يمنع الغرب من مدّ الجيش بما يحتاجه من أسلحة حديثة، خشية من استعمالها ضد الجيش الاسرائيلي او خوفا من وقوعها بيد حزب الله!
نعم.. تسليح الجيش بعتاد متطور عابر للخطوط الحمر، يصبح ممكنا إذا تبدلت عقيدته القتالية المعادية لاسرائيل، أو إذا قرر ان ينتقل من مرحلة التعايش مع حزب الله الى مرحلة التصادم معه، والدليل على ذلك ان الجيش حصل في مطلع عهد الرئيس السابق للجهورية أمين الجميل(1982-1988) على دعم غربي كبير، وأميركي خصوصا، لانه كان يحمل عقيدة مغايرة، وكان يدافع عن النظام المتحالف مع الولايات المتحدة آنذاك في مواجهة معارضيه من الأطراف اللبنانية الرافضة للخيار الاميركي والمتحالفة مع سوريا.
والمفارقة الاخرى، ان بعض التيارات السياسية في لبنان لا تكف عن تأكيد دعمها للجيش، لكنها في الوقت ذاته تترك لاصوات تخرج من داخل صفوفها ان تهاجمه وتحرض عليه. كما ان هذه التيارات لا يطيب لها ان تمارس التقشف وسياسة شد الاحزمة، إلا عندما يتعلق الامر بإنفاق يستفيد منه الجيش.
ومع ذلك كله، استطاع الجيش في لبنان ان يصبح أكبر من مجرد مؤسسة عسكرية. انه نموذج حي وتطبيقي للتنوع والعيش المشترك والتضحية والرؤية الوطنية، في زمن الفرز المذهبي والانانيات السياسية والفساد والتطرف..
والتجارب أظهرت أيضا ان الجيش هو الحل عندما تضيق الخيارات. هذا ما يدل عليه مسار بدأ مع انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية، ثم العماد إميل لحود والعماد ميشال سليمان.. فما هو مستقبل هذا المسار، وهل يمكن ان يملأ «عسكري» الشغور المستمر في الرئاسة منذ أشهر، ام ان التسويات ستفرز رئيسا مدنيا هذه المرة؟
Leave a Reply