في كل الدول التي تحاول القوى الإسلامية من جهادية وسلفية دعوية السيطرة عليها وإقامة «حكم الشريعة الإسلامية» فيها، يكون الجيش هو المستهدف، بالإعتداء عليه وتفكيكه وشل قدراته، لتسقط الدولة ومؤسساتها، واحتراب المجتمع مع نفسه، فتملأ الفراغ الجماعات الإسلامية، هذا ما حصل في كل المجتمعات التي انحلّ فيها الجيش والقوى الأمنية الأخرى، ونشأت مكانه ميليشيات وكتائب مسلحة.
وفي لبنان يتم التركيز في هذه المرحلة على الجيش بمحاولة تشويه صورته الوطنية، وإلصاق أوصاف فيه ليست من تكوينه، بالقول عنه أنه «جيش صليبي»، كما جاء في بيان شخص يدعى «أبوسياف الأنصاري» أذاع من طرابلس بياناً أعلن فيه عن وجود فرع لـ«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) في لبنان وبدء جهادها فيه، وقد وجّه دعوة الى السّنّة في «الجيش الصليبي» للإنشقاق عنه، وهو الأسلوب نفسه الذي اعتمد في سوريا والعراق، ورفع هذا التنظيم من تهديده بأنه سيستهدف مواقع ومراكز وثكنات الجيش، وهذا تطوّر خطير ضد المؤسسة العسكرية لم تعرفها سوى في أثناء الحرب الأهلية ما بين 1975-1990، عندما حصل خلاف حول الجيش ودوره، وجرى تمزيقه من قبل أحزاب ومنظمات فلسطينية لها ضباط بين صفوفه، فحصل أول إنشقاق حمل إسم «جيش لبنان العربي» بقيادة الملازم أول أحمد الخطيب الذي توفي قبل أيام ودعمته «فتح» وأصبح يقاتل مع ميليشيات الحركة الوطنية، وسبقه ضباط ينتمون الى أحزاب «الجبهة اللبنانية» بالإلتحاق بميليشيات «الكتائب» و«الأحرار» مثل الرائد يوسف الطحان وأنطوان بركات وغيرهما، ثم إنشقاق الرائد سعد حداد في ثكنة مرجعيون وتعامله مع العدو الإسرائيلي، وإنشاء «جيش لبنان الحر» في العام 1978 بعد الإجتياح الصهيوني لجنوب الليطاني وإقامة ما سمي «الشريط الحدودي المحتل»، وتسلم العميد أنطوان لحد قيادة هذا الجيش بعد وفاة حداد، وبات جزءاً من قوات الإحتلال الإسرائيلي في الجنوب، وفرّ معها عند انسحابها في 25 أيار 2000 ليدير مطعماً في فلسطين المحتلة.
لقد مرّ الجيش اللبناني بعملية تفكيك، مع إندلاع الحرب ألاهلية، اوالإنقسام السياسي الحاد بين القوى السياسية الذي كان يتّخذ طابعاً طائفياً أو مذهبياً، أو عندما تختلف السلطة السياسية على دور للجيش في صراع داخلي، او تدخله ضد فريق سياسي أو إبقائه في الثكنات وتحييده، كما أن الخلاف كان أيضاً حول موقع الجيش في التصدي للعدو الإسرائيلي وخرقه للسيادة اللبنانية، لاسيما بعد تمركز المقاومة الفلسطينية في لبنان، وانطلاقها بعمليات موجهة ضد الكيان الصهيوني ومستوطناته، فكان الرد الإسرائيلي عليها بالإعتداء على لبنان لاسيما القرى والبلدات الحدودية في الجنوب والمخيمات الفلسطينية.
وقد نتج عن ذلك، أن الجيش وقع ضحية الخلاف السياسي حول دوره، فهناك فريق مثّله اليمين اللبناني المحتضن مسيحياً بقيادة حزب الكتائب الذي كان لديه ميليشيا عسكرية، وقف الى جانب الجيش ويريده أن يمنع وجود سلاح فلسطيني يتسبّب بمخاطر واعتداءات على لبنان، وواجهه فريق آخر من اليسار اللبناني المتحالف مع المقاومة الفلسطينية والمحتضن إسلامياً، وهكذا بدأت الدعوات للإنشقاق عن الجيش لاسيما عندما كان يتم توريطه في معركة داخلية الى جانب فريق سياسي أو طائفي.
وما تحاول القوى الإسلامية السلفية والجهادية أن تفعله اليوم نحو الجيش، هو تكرار لما جرى في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ومن ضمن مشروعها السياسي لإقامة «حكم الله»، فإن أول مَن ستصطدم به هو وجود الجيش الذي يحمي السلم الأهلي ويحافظ على المؤسسات الدستورية، طالما أنه محصّن بقرار سياسي من الدولة التي مازالت موجودة في هيكلها الدستوري والذي بات يخشى أن يسقط، مع التمديد لمجلس النواب وعدم إجراء إنتخابات نيابية، وقد لا تجرى في الأشهر المقبلة لإنتهاء مهلة التمديد، في ظل عدم الإتفاق على تشكيل حكومة جامعة، جرى خرق التفاهم حول شكلها وصيغتها، عندما وصل التأليف عند توزيع الحقائب فاصطدم بما يسمى «المداورة» التي ما هي إلاّ لغم لتفجير تشكيل الحكومة لأسباب تتعلق بإنتخابات رئاسة الجمهورية، كما في انتظار مسار الأزمة السورية، والتسويات الإقليمية والدولية وتطورها حول أكثر من ساحة ساخنة في العالم، والصراع الأميركي-الروسي حولها.
فالجيش الذي نجح في إمتحان الحفاظ على السلم الأهلي منذ خروج القوات السورية من لبنان في آخر نيسان من العام 2005، وتمكّن من أن يمنع عودة خطوط التماس من جديد، ففصل بين المتقاتلين في أكثر من منطقة شهدت توترات أمنية إتّخذت طابعاً مذهبياً أو طائفياً، وأحد أبرز عناوينها هي الجولات المتتالية من القتال بين باب التبانة وجبل محسن في طرابلس، التي لم تخمد نارها منذ العام 2008، وزاد من إشعالها إندلاع الأحداث في سوريا التي بات ما يحصل في الشمال مرتبطاً بها، وهو الأمر نفسه في البقاع وتحديداً الشمالي منه، حيث تشكّل عرسال الواقعة عند الحدود اللبنانية-السورية في السلسلة الشرقية «دفرسواراً» في جرد المنطقة فتخرج منه السيارات المفخخة التي كشفت التحقيقات الأمنية والقضائية أنها تأتي من بلدة يبرود السورية في جبال القلمون حيث يتم تصنيعها، وتمرّ عبر عرسال وبمساعدة أشخاص من البلدة الذين لهم دور أساسي في تنظيمي «جبهة النصرة» و«داعش»، وهذا ما كشفته التحقيقات مع الشيخ عمر الأطرش الذي اعترف أنه ساعد في نقل إنتحاريين وسيارات مفخخة الى الضاحية الجنوبية وانفجرت اثنتان منهما في الضاحية الجنوبية والشويفات.
ولقد كان اعتقال الأطرش صيداً ثميناً، يوازي توقيف «زعيم كتائب عبدالله عزام» في لبنان ماجد الماجد السعودي الجنسية، لكنه توفي بعد أيام من اعتقاله، وفتح توقيفه من قبل مخابرات الجيش الباب لإعتقال جمال دفتردار في كامد اللوز بالبقاع الغربي الذي كان يساعد عزام، ومن اعترافاته نشطت مخابرات الجيش في توقيف الأطرش وهو شيخ ينتمي الى «هيئة علماء المسلمين» التي تضم المئات من المشايخ الذين يدينون بالسلفية الجهادية، ويرسلون مقاتلين الى سوريا مع السلاح عبر عرسال ومناطق في عكار، كما يحتضنون قيادات وعناصر من المعارضة السورية المسلحة وجلّهم من الإسلاميين الجهاديين، حيث تحرك مشايخ هذه الهيئة رافعين شعارات «مظلومية أهل السّنّة»، وهو الخطاب الذي ظهر مع ما سمي «ثورة سورية»، لرفع الصراع المذهبي والإستفادة منه في التعبئة وضمّ مؤيدين لهم في صفوفهم، وهذا ما فعله الشيخ الفار من وجه العدالة أحمد الأسير، وأعلن عنه النائب خالد الضاهر، ودعا في أحد تصريحاته، أهل السّنّة للخروج من الجيش بعد مقتل الشبخ عبد الواحد عند حاجز للجيش في عكار لم يمتثل لأوامره بتفتيش السيارة ووجود مسلحين في سيارة أخرى كانت ترافقه.
وقد بلغ خطاب التحريض على الجيش ذروته خلال الأسابيع الماضية عندما وصل الأمر الى وصف أحد المشايخ الجيش بالعصابة بعد اعتقاله للأطرش ومن امام مدخل وزارة الدفاع، مما يكشف مستوى التعبئة التي وصلت إليها الجماعات الإسلامية ضد المؤسسة العسكرية التي أخذت تهديداتها على محمل الجد بعد تفجير أحد الإنتحاريين نفسه عند حاجز للجيش في الأولي ثمّ الهجوم على حواجر آخر في شرق صيدا، والإعتداءات المتكررة عليه في طرابلس ومنع تحركه في باب التبانة، وعمليات قتل لضباطه وجنوده التي حصلت في عرسال وشتورا والبقاع الغربي وتفجير باصين للجيش في طرابلس قبل سنوات لأن الجيش يقف سداً منيعاً أمام هذه المجموعات الإرهابية ويمنع تنفيذ مشروعها في لبنان، وهي حاولت ذلك منذ مطلع العام 2000 في أحداث جرود الضنية، ثم في معركة «مخيم نهر البارد» عام 2007 مع «فتح الإسلام» وهي إحدى تنظيمات «القاعدة» التي أرسلت من العراق مع شاكر العبسي وكان يأتمر بأوامر «أبو مصعب الزرقاوي» الأردني الجنسية الذي ذهب للعراق للجهاد وقُتل هناك.
فمخاطر حقيقية تتهدّد الجيش الذي رفع من جهوزيته، واتّخذ إجراءات ميدانية استثنائية، ونشط عمل مخابراته التي حققت انجازات في كشف الشبكات الارهابية وتساقط عناصرها بقبضتها وكان اخرهم نعيم عباس وهو من أخطر المطلوبين المتهمين باغتيال اللواء فرانسوا الحاج والنائب وليد عيدو وتفجيرات الضاحية وأعمال إرهابية أخرى، ووضع قائده العماد جان قهوجي المسؤولين والقيادات السياسية في أجواء ما يتهدّد المؤسسة العسكرية التي هي صمام الأمان للأمن والإستقرار، وتلقى دعماً خارجياً لمدها بالسلاح والعتاد وكان آخرها الهبة السعودية بمبلغ ثلاثة مليار دولار دفعته المملكة لفرنسا لتزويد الجيش بما يحتاج، وهو وضع برنامجاً للتسلح بمبلغ مليار ونصف مليار دولار، أمنت الحكومة اللبنانية ملياراً ونصف المليار من الموازنة لمدة خمس سنوات، وأكملت المبلغ السعودية، حيث كشف قائد الجيش أن آلية وضعت للتنفيذ، وأن وجهة السلاح هي العدو الإسرائيلي ومحاربة الإرهاب والأولوية هي للثانية في هذه المرحلة الأمنية الخطيرة التي تهدد لبنان، حيث يضع الجيش كل ثقله لمنع تمركز عناصر إرهابية فيه من تنظيم «القاعدة»، وقد نجح في محاولاته السابقة وكلفته مئات الشهداء والجرحى من ضباطه وعناصره ومازال، ولن يتراجع عن هذه المهمة الوطنية التي توازي التصدي للعدو الإسرائيلي الذي بات يخشى من الجيش مثله مثل المقاومة، بعدما ثبت في المواجهة ضد أي خرق إسرائيلي، وهذا ما أعطى المؤسسة العسكرية ثقة سياسية وشعبية وإجماعاً وطنياً حولها واحتضاناً شعبياً، وقد ظهر ذلك في معارك الضنية ومخيم نهر البارد وعبرا وفي اعتقال المجموعات الإرهابية، مما يؤكد على أن لبنان لن يقع في قبضة القوى التكفيرية، ولن ينفع تصنيف الجيش أنه فئوي من قبل مجموعات تكفيرية، لأن غاياتها هي إسقاطه مقدمة لإسقاط الدولة ومؤسساتها، وهي مكفّرة أيضاً من هؤلاء، لأنها دولة مدنية ودستورها يحتكم الى الشعب في قيام الحكم، ولا يستند الى «شرع الله»، وهي بمفهوم السلفيين الجهاديين دولة كافرة يجب أن تنهار، وليحصل ذلك يجب أن يضرب عمودها الفقري وهو الجيش، وهذا ما يحصل في مصر، وجرى في الجزائر، وتجري محاولة في تونس، وتمّ تجريبه في سوريا، وأيضاً في العراق واليمن وليبيا… لكن الجيش كما أكّد قائده العماد قهوجي هو الأقوى بالقانون والإحتضان الشعبي، من كل القوى على الأرض، وأن معركته ضد الإرهابيين عندما يعتدون أو يحاولون الإعتداء على المواطنين، الذين لا ملاذ لهم إلاّ الجيش الذي من دونه لا دولة ولا مجتمع موحّد ولا سلام ولا أمن ولا لبنان، بل إرهاب وتكفير وحز رقاب واقتلاع قلوب ومص دماء…
Leave a Reply