عرسال إلى الواجهة الأمنية والعسكرية من جديد، مع اقتراب العام الثالث من الأحداث التي وقعت فيها، عندما هاجمت جماعات مسلحة إرهابية تابعة لتنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة» مواقع للجيش اللبناني في البلدة التي تقع في البقاع الشمالي، وعلى تخوم السلسلة الشرقية لجبال لبنان وحدوده مع سوريا، إذ قتلت نحو عشرين ضابطاً وعنصراً وخطفت آخرين مازال مصير تسعة منهم مجهولاً، كما اقتحمت مخفر قوى الأمن الداخلي وأسرت 19 من عناصره، بتواطؤ بعض العرساليين المؤيدين للتنظيمين الإرهابيين ومنهم رئيس البلدية السابق علي الحجيري الملقّب بـ«أبو عجينة»، والذي كان له دور في استباحة البلدة من قبل العناصر الإرهابية، والذين لاقوا غطاءً سياسياً من قبل قوى «14 آذار» باعتبارهم «ثوار» يجب حمايتهم من النظام السوري.
إلا أن أخطر المتواطئين مع الإرهابيين كان الشيخ مصطفى الحجيري الملقّب بـ«أبو طاقية» والذي نقل عناصر الدرك إلى منزله، وسلّمهم إلى «داعش» و«النصرة»، وهو القريب عقائدياً منهم، حيث شكّل هو ومع بعض الأفراد من عرسال موطئ قدم ليقيم الإرهابيون مواقع لهم في البلدة وداخل مخيمات النازحين وفي جرودها التي يتواجد فيها نحو ألف مسلح يمارسون بطشهم على الأهالي ويقيمون ما يشبه «إمارة إسلامية»، لها أميرها ويدعى «أبو مالك التلة»، ولها مفتيها الذي يفتي بالقتل، حيث قضى نحو 15 شخصاً من عرسال برصاص الإرهابيين.
انقلاب المعادلة
بعد ثلاث سنوات على احتلال عرسال من قبل الجماعات الإرهابية التكفيرية، وفق وصف وزير الداخلية نهاد المشنوق، فإن الجيش اللبناني المتمركز عند تخومها حيث يقيم مراكز له في رأس بعلبك المجاورة، وأيضاً في اللبوة حيث مقر القيادة العسكرية، بدأ يستعيد المبادرة بعد أن جهّز نفسه بمراكز مراقبة قدمها له الجيش البريطاني مع مناظير ليلية ونهارية متطورة إضافة إلى تزوده بأسلحة حديثة الصنع من مدافع ودبابات ورشاشات، وهذا ما مكّنه من إحداث اختراقات في صفوف المسلحين الإرهابيين والتضييق عليهم ومراقبة تحركاتهم عبر طائرات بلا طيار سهلت مهمة الجيش في رصدهم وقصف تجمعاتهم وإنزال خسائر في صفوفهم، لاسيما في أماكن تواجدهم في وادي حميّد والملاهي والجراجير والمقالع وغيرها من المواقع التي كانت تتواصل مع قيادات «جبهة النصرة» في جبال القلمون قبل تحريرها، والرقة عاصمة «داعش».
إلا أن الوضع الميداني اليوم اختلف عما كان عليه في السنوات الثلاث السابقة، بعد أن حرّر الجيش السوري و«حزب الله» كل المناطق السورية المحاذية للحدود مع لبنان من الزبداني إلى جبال القلمون فقارّة وصولاً إلى القصيّر في ريف حمص.
وقبل أشهر قليلة، أعلن الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله عن انتهاء العمليات العسكرية للمقاومة في المنطقة داعياً النازحين في عرسال للعودة إلى مناطقهم الآمنة، وقد بدأت عشرات العائلات بالانتقال إلى بلداتهم منذ حوالي شهر. وكذلك اقترح نصرالله على المسلحين أن يغادروا طوعاً، بفتح الطريق أمامهم إلى مناطق يختارونها قبل الحسم العسكري ضدهم.
تضييق الخناق
ومع الهزائم التي لحقت بتنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» في مختلف المناطق السورية، تمكن الجيش اللبناني من إحراز انتصارات ضد الارهابيين في جرود عرسال، متبعاً خطة عسكرية وأمنية، تقوم على الرصد وجمع المعلومات الاستخبارية، ثم الاستهداف لإنهاك المسلحين ومنعهم من التجمع والتحرك بسهولة، إلى جانب قطع طرق الإمداد عنهم، وقد أصبحوا بين فكي كماشة الجيش السوري و«حزب الله» في الجانب السوري من الحدود، والجيش اللبناني عند المقلب الآخر منها مما مكّن القوات العسكرية اللبنانية من أن تحرز تقدماً على أكثر من محور، حيث تقوم بقضم الأرض وتضيق الخناق على الإرهابيين الذين انقطعت أيضاً طرق تواصلهم مع مخيمات النازحين في عرسال التي يقوم الجيش من وقت إلى آخر بمداهمات لها للتأكّد من خلوّها من السلاح، كما من عناصر مشبوهة. وقد تمكّن مؤخراً من إلقاء القبض على عدد من المطلوبين ومنهم مَن هو متورط بالقتال ضد الجيش واقتحام مواقعه، وبعضهم من عرسال، وآخرهم كان السوري أحمد خالد دياب الذي اعترف بأنه هو مَن قتل المقدم نورالدين الجمل في أثناء الهجوم على مركز الجيش في مهنية عرسال.
وكر انتحاريين
وفي المداهمة الأخيرة للجيش لمخيمين للنازحين في عرسال، وهما «النور» و«القارية»، وبعد أن وردت معلومات لمخابرات الجيش عن وجود مطلوبين خطرين وإرهابيين يحضرون لتنفيذ عمليات إجرامية في مناطق لبنانية، فوجئت دورية من المخابرات والفوج المجوقل المرابض في المنطقة بإقدام مسؤول في «جبهة النصرة» على تفجير نفسه بحزام ناسف مما أدّى إلى مقتله ويدعى «أبو عائشة» وجرح ثلاثة من الدورية، كما قام انتحاريان آخران وفي مكان آخر بتفجير نفسيهما وسط عناصر من الجيش، وهما خلدون حلواني وعبدالله زراعي الملقّب بـ«أبي عبيدة الشامي»، وهو قاض شرعي لـ«جبهة النصرة» في جرود عرسال، وقد فجّرا نفسيهما بحضور أفراد من عائلتيهما فقتلت طفلة عمرها ثلاث سنوات، ثمّ فجّر انتحاري رابع نفسه أثناء مداهمة مسكنه في مخيم القارية وهو أحد مسؤولي «النصرة» أيضاً في وقت كان انتحاري خامس يفجّر حزامه، وجُرح في هذه العملية النوعية والناجحة للجيش 19 عسكرياً، ثلاثة منهم كانت أوضاعهم حرجة ولكن لا تدعو للقلق حسب مصادر طبية وعسكرية.
غطاء سياسي وشعبي
وإثر التفجيرات التي نفّذها الانتحاريون، قام الجيش بحملة مداهمة واسعة لمخيمات النازحين الذين يبلغ عددهم نحو 120 ألفاً في عرسال، وتمكّن من توقيف نحو 337 شخصاً للتدقيق في أوضاعهم وفق المعلومات الاستخبارية عنهم. وقد حاول بعض مَن يدعون أنهم مع «الثورة السورية» ودعاة «حقوق الإنسان» إلى انتقاد أسلوب الجيش في التعاطي مع الموقوفين لجهة طرحهم أرضهم وتعريتهم من لباسهم –قمصانهم–، ولكنهم قوبلوا برد واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي أدان المتحاملين على الجيش واتهامه بخرق القوانين، في وقت لاقت جهود الأمنية، التحية والتقدير من كل أحزاب وقوى المجتمع اللبناني، وحصل إلتفاف شعبي وسياسي واسع حول المؤسسة العسكرية التي طالب المؤيدون لها بتأمين كل الدعم السياسي والمالي للجيش في حربها ضد الإرهاب وتزويده بكل الأسلحة المناسبة.
وأدّت النجاحات التي يحققها الجيش مع الأجهزة الأمنية الرسمية الأخرى من قوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات التابع لها إلى الأمن العام وأمن الدولة، إلى إشادة الدول بهذه المؤسسات الأمنية لاسيما الجيش الذي بالحرب الإستباقية التي يخوضها ضد الإرهابيين، يعتبر من الجيوش القليلة في العالم التي تحقق هذه الإنجازات على أرض يتواجد فيها مليون ونصف مليون نازح سوري، متواجدون على كل الجغرافيا اللبنانية، وعلى مسافة قريبة من سوريا التي تدور فيها أحداث منذ أكثر من ست سنوات، وتمكّن الجيش من أن يمنع تمدد الحريق إليه، ساعده في ذلك قرار سياسي لبناني داخلي بفصل ما يجري في سوريا عن الداخل اللبناني الذي ينقسم اللبنانيون حول توصيف الأزمة السورية ومسبباتها ونتائجها.
ممسوك ومتماسك
الأمن في لبنان ممسوك ومتماسك، وقد زاد من فعاليته التنسيق القائم بين إداراته، وإبعاد الصراع السياسي عن مؤسساته، وهو ما أدّى إلى اكتشاف الشبكات الإرهابية تحت ما يسمى الأمن الوقائي، وقد أحبطت القوى الأمنية منع حصول عمليات تفجير وإلقاء القبض على منفذيها ومنها عملية مقهى «الكوستا» في الحمراء، إذ تمّ إلقاء القبض على الإرهابي قبل تنفيذ جريمته، ومثله شبكة إرهابية اعتقلها الأمن العام كان أعضاؤها السبعة سيفجرون أنفسهم بأحزمة ناسفة خلال شهر رمضان في أماكن عدة منها إفطار في الضاحية الجنوبية –مطعم الساحة– وداخل المطار ومراكز سياحية في صيدا وطرابلس وشخصيات سياسية ودينية، وتبيّن أن أفراد الشبكة الإرهابية هم من جنسيات مختلفة بينهم يمنيون وفلسطينيون وسوريون ينتمون إلى تنظيم «داعش» ويديرهم المدعو خالد مسعد الملقّب بخالد السيد، وقد سلمته الفصائل الفلسطينية في مخيم عين الحلوة إلى مخابرات الجيش التي سلّمته بدورها إلى الأمن العام الذي يتولّى التحقيق مع أفراد الشبكة.
فالإنجاز الأمني والعسكري الذي سجله الجيش في عرسال حصل بعد أن تغيّرت ظروف البلد والبلدة التي طالب أهاليها عبر فعالياتها وعلى رأسهم رئيس البلدية باسل الحجيري القيادة السياسية والعسكرية بتحرير بلدتهم من الإرهابيين وهو ما كان مرفوضاً قبل سنوات، ما يؤكّد أن لا بيئة حاضنة لقوى التطرف الإسلامي في لبنان، لا في المخيمات السورية ولا الفلسطينية، حيث بدأت المنظمات الإسلامية فيها لاسيما في عين الحلوة تتعاطى بعقلانية، وباشرت بتسليم المطلوبين لتجنيب المخيم المآسي، وهذا ما بدأه أهالي عرسال، وقد بدأت تسقط أسطورة «داعش» من الموصل إلى الرقة فلبنان، الذي لم يكن بعيداً يوماً عن حساباتها.
Leave a Reply