بيروت – كمال ذبيان
خاض الجيش اللبناني أقسى المعارك في مخيم نهر البارد ضد تنظيم «فتح الإسلام» برئاسة الأردني من أصل فلسطيني شاكر العبسي، من أيار 2007 الى آب من العام نفسه وتكبّد عشرات الشهداء (170 بين ضابط وعسكري) ومئات الجرحى، ولم يقع له أسير، وفي أحداث عبرا في نهاية حزيران من العام 2013، والتي حسمها الجيش خلال 48 ساعة وسقط له شهداء وجرحى، لم يؤسر له أي عنصر الا في عرسال حيث تمّ أسر نحو 36 عسكرياً بين أفراد جيش وقوى أمن داخلي، بعد أن تكبّد 20 شهيداً وأكثر من مئتي جريح، في غزوة مشتركة لعناصر من «جبهة النصرة» و«تنظيم داعش» ومشاركة ألف مسلّح من مخيّم النازحين السوريين في البلدة التي ساندهم عشرات المسلحين من أبنائها.
المساعدات العسكرية التي قدمتها الحكومة الأميركية للجيش اللبناني |
فخطف عسكريين كان أحد أهداف معركة عرسال، لمبادلتهم «بالسجناء الإسلاميين» في سجن رومية، وهو ما سبق لقوى إسلامية سلفية ومتطرفة أن هدّدت باقتحام السجن بعد تفجير مدخله، لإطلاق سراح الموقوفين الذين يقدّر عددهم بحوالي 300 موقوف هم من «فتح الإسلام» وجماعة الشيخ أحمد الأسير، وعناصر إسلامية شاركت في أعمال تفجير واغتيالات ومنها رموز قيادية مثل نعيم عباس وخالد دفتردار وحسن الأطرش، وعماد جمعة الذي اعتقل مؤخراً وفجّر توقيفه معارك عرسال التي كان مخططاً لها كما اعترف اقامة «إمارة إسلامية» وإطلاق سراح الموقوفين الإسلاميين.
ولأول مرة في تاريخ المؤسسة العسكرية تحصل عملية أسر لعناصرها، فلم يُسجل أن العدو الإسرائيلي قام بأسر عسكريين لبنانيين حتى أثناء غزوه للبنان عام 1982، كما لم يقم تنظيم لبناني بذلك إلا في عمليات خطف كانت تحصل على الهوية أثناء الحرب الأهلية، أو في أثناء معارك «القوات اللبنانية» ضد الجيش اللبناني في العام 1989 – 1990، أسرت القوات ضباطاً وجنوداً وتمّت تصفية البعض منهم.
فعملية أسر العسكريين التي تدور روايات حولها، كما عن المعارك في عرسال التي استبسل الضباط والجنود في الدفاع عن مواقعهم ومراكزهم وسقط بعضهم شهداء وجرحى، فإن عملية الأسر حصلت بتواطؤ بين مسلحين من عرسال وآخرين من الجماعات الإرهابية، إذ تمّ اعتقالهم في شوارع البلدة، قبل وأثناء وبعد المعارك، وهو ما حصل مع عناصر قوى الأمن الداخلي في فصيلة عرسال إذ تمّ أسرهم ونقلهم الى منزل الشيخ مصطفى الحجيري الملقّب بـ «أبو طاقية»، الذي تعهّد بحمايتهم لكنه لم يفعل ونكث بعهده ووعده وتسلّمهم منه المسلحون، تحت تهديد السلاح كما ذكر، ليعود فيما بعد ليفرج عن بعضهم بالمفرق، لتبييض صفحته ولرفع المسؤولية عنه، وإظهار موقف إيجابية وهو المتّهم بأنه يعمل مع الجماعات المسلحة وقدم لهم كل الدعم اللوجستي من سلاح وعتاد الى مواد غذائية واحتضان سياسي تحت شعار دعم «الثورة السورية»، ليتبيّن عن علاقة قوية مع المسلحين يلتقيهم في الجرود وينسّق معهم، وهو فعل خيراً أن أطلق سراح بعض المخطوفين، وكان يمكنه لو فعل مع أهالي بلدته أن يعمل على منع أسرهم، كما يسرع الى إطلاق سراحهم، ولو أقفل البلدة بوجههم، وحاصر مخيّم النازحين الذي يضم عائلات المسلحين الخاطفين للجنود والضغط عليهم لفك أسر الجنود، لكن هذا لم يحصل وبات العسكريون مادة للتفاوض مقابل موقوفين ينتمون الى جماعات إرهابية تكفيرية قام بعضهم بجرائم قتل وتفجير وتخريب، إذ أن طلب مقايضة هؤلاء المجرمين بالعسكريين خلق إرباكاً للحكومة ولفريق 14 آذار فيها، والذي سبق له أن أطلق في صيف 2005 سراح سجناء محكومين لحوالي 30 عنصراً من «جماعة التكفير والهجرة»، قتلوا ضابطاً وجنوداً في جرود الضنية مطلع عام 2000، وأطلق مع هؤلاء رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي صدرت بحقه أحكام قضائية بجرائم اغتيال الرئيس رشيد كرامي وداني شمعون وتفجير كنيسة في زحلة إلخ… وقد أصدر مجلس النواب بعد انتخابات 2005 قانوناً بالعفو عن موقوفي الضنيّة وجعجع، وهو ما خلق مناخاً لنمو «الجماعات الإسلامية المتطرفة» التي برزت في أثناء تولي 14 آذار للسلطة بتواطؤ مع قوى في 8 آذار دخلت في تحالف رباعي انتخابي، وكان من نتائجه صدور العفو عن مجلس النواب، ثمّ في منح ترخيص «لحزب التحرير» المحظور عالمياً من قبل وزير الداخلية بالوكالة أحمد فتفت، وظهرت بعد ذلك تنظيمات إسلامية منها «جند الشام» و«عصبة الأنصار» وغيرهما وتشكلت منهما النواة لتنظيم «فتح الإسلام» وما انضم إليه من إسلاميين متشددين في طرابلس والشمال ومناطق أخرى والمخيمات إضافة الى عناصر إسلامية من دول عربية وأجنبية.
فوقوع العسكريين أسرى بيد تنظيمين إرهابيين تكفيريين، أربك قيادة الجيش التي لم تقم بأي عمل عسكري لتحريرهم، وقد كبّل القرار السياسي تحركها، بعد أن صدرت مواقف لوزراء مثل أشرف ريفي وأثناء المعركة مع الإرهابيين يؤكّد أن الحل سياسي وليس عسكرياً، حيث تزامن موقفه مع ما صدر عن النواب محمد كبارة وخالد الضاهر ومعين المرعبي وهم يهاجمون الجيش ويحذّرونه من أي عمل عسكري ضد «عرسال السّنّيّة» في تحريض مذهبي على الجيش الذي لم يؤمّن له الغطاء السياسي الكافي والكامل، مما سمح للمسلحين بعد أن أسقطوا المواقع العسكرية، بأن يخطون العسكريين، في وقت كان وفد من «هيئة العلماء المسلمين» يطلب «هدنة إنسانية» لنقل الجرحى، كان المسلحون الإرهابيون يفرّون بالعسكريين الى الجرود، لتبدأ الحكومة بالتفاوض مع وقف المعارك العسكرية، مما عطّل على الجيش القيام بتحرير عسكرييه المخطوفين، وقد وقعت قيادته بإرباك أنها لم تعلم بالعدد الحقيقي للمخطوفين، بعد أن بلغها أنه قد يكون بعض العسكريين إلتحق بالمسلحين، على غرار ما فعل المجنّد عاطف سعدالدين، قبل أسابيع، وقد زاد من إرباك القيادة العسكرية، أن شريطاً مصوراً وصلها يعلن فيه عسكريَين التحاقهما بالإرهابيين، وأحدهما الرقيب علي السيد الذي ذبحه المسلحون وقطعوا رأسه بعد أن هدّدوا بقتل عسكري كل ثلاثة أيام إذا لم تلبِّ الحكومة مطالب الخاطفين بإطلاق سراح الموقوفين الإسلاميين، وعدم مضايقة النازحين السوريين، ومعاملة الجرحى بشكل لائق.
لقد وقع لبنان في مأزق خطف عسكرييه، ومطالب المسلحين التي لا يمكن للحكومة أن تستجيب لها، لأنها تتعلّق بالقضاء الذي يحاكمهم بجرائم سقط فيها عشرات بل مئات القتلى وآلاف الجرحى من المواطنين، وأن قرار الإفراج عن الإسلاميين الموقوفين ليس بالأمر السهل والسريع، وأن ما حصل مع موقوفي الضنّيّة بالعفو عنهم يختلف عن وضع سجناء رومية الإسلاميين الذين يقيمون إمارة لهم في السجن باعتراف وزير الداخلية نهاد المشنوق ويديرون منها عمليات أمنية وتفجيرات خارج السجن الذي يكشف عن أن الدولة في لبنان هزيلة وضعيفة ومن ورق، وأنها لا تستطيع إدارة سجن، فكيف يمكن لمسؤوليها أن يديروا سلطة ويحكموا؟.
فالسلطة اللبنانية ستفقد هيبتها أكثر مما هي مفقودة، إذا ما امتثلت لمطالب الخاطفين، فعندها تسقط ليست الهيبة بل الدولة التي لم يتمكّن جيشها من تحرير أسراه، بسبب عدم إعطائه القرار السياسي للقيام بعملية عسكرية لإنقاذهم، حتى ولو استشهدوا، فإنه يبقى أفضل بكثير من أن يرسل المسلحون جثثهم مقطوعة الرأس، لأن بذلك يعملون على تقطيع أوصال الدولة التي تشكّل المؤسسة العسكرية جسدها، وأن هدف الإرهابيين كما في كثير من الدول، هو ضرب الجيش عبر فصل الرأس عن الجسد، فتنهار معنوياته ويسقط ومعه تسقط الدولة التي تعيش بلا رأس مع مرور اربعة أشهر على شغور موقع رئاسة الجمهورية، كما هي على أبواب التمديد لمجلس نواب معطّل، ومع حكومة يخشى تفككها وانفراطها كل يوم، بحيث تكون الطريق لـ«دولة داعش» سهلة في ظل الإنقسام السياسي والطائفي، وعدم إدراك فئة كبيرة من السياسيين ماذا يعني الخطر الوجودي لـ«داعش» ونهجها التكفيري التدميري، ويتعاطون معها على أنها تنظيم صغير وميليشيا صنعها النظام السوري، لا أنها تهديد للسلم العالمي، بدأ متأخراً قادة دول الغرب ومعهم زعماء دول الخليج يتحدّثون عن خطر «داعش» وإرهابها، وقد اقتربت من دولهم وغرف نومهم.
Leave a Reply