بقلم: صبحي غندور
وضعت الحرب على غزّة الآن جميع الأطراف الإقليمية والدولية أمام خلاصةٍ هامة: لا إمكانية لإنهاء المقاومة الفلسطينية، ولا لتجاوزها أو تجاهلها. في المقابل، هناك محصّلة بعد أسابيع من العدوان الإسرائيلي: لا إمكانية لتغييرٍ جذري في الموقف الرسمي العربي، ولا أيضاً لتجاوز دور قيادة السلطة الفلسطينية أو تجاهل الدعم الدولي والعربي لها!!
فهي الآن معادلة توازن «اللاءات» بعدما ثبت أيضاً في الحرب الإسرائيلية الدائرة على غزّة استحالة فتح جبهاتٍ عربية أخرى، أو أيضاً تجاهل الغليان الشعبي الكبير الذي يحدث في عدّة عواصم عربية ودولية.
وهذه «الضوابط» العسكرية والسياسية تشكّل حالةً من «الخطوط الحمر» لدى الأطراف المختلفة عربياً وإقليمياً ودولياً، إذ يتبيّن أنّ هناك حدوداً لا يمكن تجاوزها من قبل الداعمين للمقاومة، كما ظهرت حدودٌ أخرى أمام من يرفضون الآن نهج المقاومة المسلّحة ضدّ إسرائيل.
وأمام الحكومات العربية فرصةٌ كبيرة لكي تعيد النظر في خلافاتها وأوضاعها المزرية على أكثر من صعيد، وبأن تجعل من الحرب الإسرائيلية على غزّة مدخلاً لتضامن عربي يفرض على إسرائيل التنازلات ويعاقبها بالحدّ الأدنى سياسياً واقتصادياً، ويدعم دفع الأطراف الفلسطينية إلى توحيد موقفها السياسي على قاعدة الجمع بين «اليد التي تحمل البندقية، واليد التي تحمل غصن الزيتون».
كلّ ذلك لم يحصل حتى الآن، ولا يبدو أنه سيحصل قريباً، وقد تنجح إسرائيل في حرق كلّ أشجار زيتون فلسطين لكنّها ستعجز دوماً عن قطع اليد التي تحمل البندقية.
إنّ اتفاقات أوسلو وما بعدها لم تثمر سلاماً ولا انسحاباً إسرائيلياً ولا دولة فلسطينية، بل إنّ نهج المقاومة هو الذي أجبر إسرائيل على الانسحاب من لبنان أولاً في العام 2000، ثمّ من غزّة في العام 2005.
لقد قرأت مؤخّراً وثيقة جرى تداولها على شبكة الإنترنت، وفيها رسالة من عبد القادر الحسيني، الذي كان يقود مقاتلين فلسطينيين خلال حرب 1948، إلى أمين عام جامعة الدول العربية، يقول فيها «أحمّلكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصارهم من دون عونٍ أو سلاح». وتاريخ الرسالة كان 6 نيسان (أبريل) 1948، وبعد فترةٍ وجيزة سقطت البلدة التي كان فيها الحسيني ثمّ حدثت مجزرة دير ياسين!!
العرب منشغلون اليوم في «جنس شياطين» حكّامهم بينما تُخلَع أبواب أوطانهم واحداً بعد الآخر، بل إنّ أساسات بعض هذه الأوطان تتهدّم وتتفكّك لتُبنى عليها «مستوطنات إسرائيلية» جديدة بأسماء دينية أو إثنية، كما حدث في جنوب السودان وفي العراق وفي سوريا، وكما يحدث بينهما وحولهما!.
فلم تعد القضية الفلسطينية تعني الكثير لغير الفلسطينيين من العرب، بل للأسف أصبحت أيضاً قضية «التحرّر الوطني» عموماً مسألة فيها «وجهة نظر»!! إذ لم يجد البعض مشكلةً في طلب التدخّل العسكري الأجنبي لمساعدة «ثوار عرب» في قضايا وطنية داخلية، بينما لا تحصل هذه الدعوات الآن لإنقاذ شعب غزّة الذي يواجه الحصار والقتل والدمار!!. فهي الآن حالة معاكسة تماماً لما كان عليه العرب قبل نصف قرن، حيث نجد الآن تهميشاً للقضية الفلسطينية واشتعالاً للمعايير الطائفية والمذهبية والإثنية، مقابل ما كان قبل المعاهدات مع إسرائيل من مركزية للقضية الفلسطينية وأولويّة لمعارك التحرّر الوطني من المستعمر الأجنبي، ومن غلبة للمعايير الوطنية والقومية.
هل يشكّ أحدٌ إذن في هذا الترابط والتلازم بين «ثلاثيات» مقابل «ثلاثيات» أنّ مواجهة المحتلّ الإسرائيلي تعني حتماً مواجهةً مع المستعمر الأجنبي وتعني حتماً وحدةً وطنية شعبية وقومية.. وبأنّ المراهنة على تفاهماتٍ وعلاقات مع إسرائيل تعني حتماً الوقوع في المستنقع الطائفي والمذهبي والإثني، وتشجيعَ التدخّل الأجنبي في الأوضاع الداخلية العربية!!
وكم هو جهلٌ مطبِق حينما يحصل هذا التهميش للقضية الفلسطينية حتّى في تفاصيل الأوضاع الداخلية السياسية والاقتصادية. ولعلّ بعض الشواهد التاريجية مهمّة في هذا الحديث: عدوان ثلاثي إسرائيلي/ فرنسي/ بريطاني على مصر في العام 1956 لأنّ جمال عبد الناصر قام بتأميم شركة قناة السويس لأسباب داخلية مصرية. أمّا في لبنان، فقد بدأت فيه حربٌ أهلية دامية وطويلة في العام 1975 ارتبطت بمسألة الوجود الفلسطيني على أرضه، الوجود المسلّح وغير المسلّح. ففي لبنان يعيش مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين المسؤولة إسرائيل والغرب عن تهجيرهم من وطنهم وأرضهم لأكثر من ستة عقود، ولا حلَّ قريب لمشكلتهم، وبالتالي شكّل هذا الوجود الفلسطيني عنصرَ تأزّمٍ في الحياة السياسية اللبنانية، القائمة أصلاً على أوضاع خاطئة مهدّدة دائماً بالانفجار. فهل كان من الممكن خلال تلك الحقبة التي كانت تتهيّأ لمعاهدات «كامب ديفيد»، أن يشهد لبنان استقراراً دون حلولٍ عادلة لحقوق الشعب الفلسطيني؟! أليست أوضاع سوريا والأردن ومصر مشابهةً أيضاً للحالة اللبنانية، وهل يمكن عزل ما يحدث في هذه الدول عن مجريات الصراع العربي مع إسرائيل والمشاريع الأجنبية الداعمة لها؟! ألم يكن تفكيك السودان حالياً ومحاولات تقسيم العراق ولبنان وغيرهما، مصلحةً وهدفاً إسرائيلياً يتمّ العمل لأجلهما منذ نشوء دولة إسرائيل؟!
أليس كذلك هو حال كثيرٍ من الدول العربية التي يرتبط الاستقرار السياسي والاقتصادي فيها بمصائر الحروب والتسويات مع إسرائيل؟! أليس أيضاً تحجيم التدخّل الإقليمي الإيراني والتركي في الشؤون العربية أمراً يرتبط في مستقبل القضية الفلسطينية، وما لهاتين الدولتين من علاقات وتأثير في الصراع العربي مع إسرائيل؟!
ففلسطين كانت أولاً في «وعد بلفور»، قبل تقسيم المنطقة العربية في «سايكس بيكو» بمطلع القرن العشرين قبل مائة عام. وفلسطين كانت أولاً في حروب «الإفرنج» قبل ألف عام. وفلسطين كانت أولاً في هدف المستعمرين الجدد في القرن الماضي، وهي أيضاً كذلك في مطلع هذا القرن الجديد.
لكن في منطقةٍ عربية يزداد فيها استخدام شعار: «الوطن أولاً»، يترسّخ واقع خدمة مصالح «إسرائيل أولاً». فشعار «الوطن أولاً» الذي رفعته بعض الأطراف العربية لم يكن من أجل تحريض المواطنين على الولاء الوطني أولاً، والتخلّي عن الانقسامات الداخلية القائم معظمها على انتماءاتٍ طائفية أو مذهبية أو أصولٍ إثنية، بل كان الشعار وما يزال يتمّ طرحه واستخدامه لتبرير الابتعاد عن الصراع العربي/الإسرائيلي والتخلّص من الواجب الوطني والقومي والديني في المساهمة بتحرير الأراضي المقدّسة في فلسطين. أيضاً، جرى استخدام هذا الشعار (الوطن أولاً) في مواجهة دول عربية أخرى، وليس طبعاً في مواجهة إسرائيل وأطماعها في الأرض والثروات العربية.
وستبقى «إسرائيل أولاً» هي المستفيدة من الواقع العربي عموماً بما هو عليه من حال الصراعات والتشرذم وانعدام وحدة الموقف، ومن غياب دور المرجعية العربية الفاعلة، ومن أولويّة مصالح الحكومات على الأوطان، ومن «جهالة» من هم يخوضون الآن حروباً أهلية في سوريا والعراق، بدأت معاركهم بحلم «الدولة الديمقراطية» وتنتهي الآن بكابوس «الدولة الإسلامية»!.
وهاهي إسرائيل مرّة أخرى تكرّر خطأها التاريخي في محاولة تصفية ظاهرة المقاومة ضدّ احتلالها الغاشم عوضاً عن إنهاء الاحتلال نفسه .. ومرّة جديدة أيضاً تقف المؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة مع إسرائيل في هذه السياسة المخالفة لكلّ الشرائع والقوانين الدولية التي تُقرّ حقّ الشعوب بمقاومة المحتلّ لها.
المشكلة في هذه السياسة الإسرائيلية المدعومة أميركياً ليست في جهل دروس التاريخ وحقائق الشرائع الدولية بل هي في استمرار المراهنة على القائم عربياً من تخلف وصراعات وتبعية، لكنْ مهما كانت تداعيات الصراع مع إسرائيل الآن سيّئة وبالغة التعقيد، ومهما كانت سلبيات الواقع العربي الراهن وحال الانقسام والعجز والضعف، فإنّ الإرادة الشعبية، في تاريخ تجارب أكثر من بلدٍ عربيٍّ، استطاعت أن تكسر الأغلال وأن تثور ضدّ الظلم والاحتلال، وهي قادرةٌ على أن تصحّح هذا الواقع عاجلاً أم آجلاً، طالما حافظت على وحدة الشعب، وأدركت مخاطر الأنجرار في الصراعات الأهلية. وقد تتغيّر الأسماء والحركات والمنظمات (والسياسات)، لكن لن يتغيّر حقّ الشعوب في مقاومة الاحتلال.
Leave a Reply