للمرة الثالثة، أعلن المذيع في المطار، أن الطائرة سوف يتأخر اقلاعها بسبب ظرف جوي طارئ. سألت شابا كان يجلس في مقعد مجاور لي إذا كان يزعجه أن استعمل تلفونه الخاص لإجراء مكالمة مع ابني لأخبره أن موعد وصولي الى ديربورن سوف يتأخر أكثر من ساعتين.
سألني الشاب بعد أن شكرته: كم هو عمر ابنك؟ أجبته. سألني ثانية: هل هو متزوج؟ قلت له: يا ريت، لا. أجابني: لماذا؟ قلت له: لم يجد المرأة، الحب، حتى الآن.
تنهد الشاب بحرقة وقال: آه.. الحب!!
احترمت صمته المفاجئ. بعد قليل سألته: وأنت.. متزوج أم لا؟ فاجأني عندما أجابني بالعربية، وكان يبدو لي أنه شاب أوروبي أو بولندي وقال: مشكلتي أنني أحبها أكثر من اللازم. أنا الآن أعاني من ثورة مكبوتة ليس ضدها وإنما ضد نفسي. لا أتمنى لابنك أن يعاني من الحب ما أعانيه. سألته: من تكون هي: زوجتك؟
كان الوقت مساء. أحيانا نتكلم مع الغرباء بصراحة، كون الغريب سوف يمضي في طريق آخر وينسى ما قلناه له. ربما وجد الشاب فيّ أنا الإنسانة الغريبة فحكى لي قصته.
كنت واحد من ثمانية أبناء. والدي كان موظفا وأمي ست بيت مدبرة تضع كل قرش في مكانه. عندما وعيت وضعنا المالي والاجتماعي قررت أن أقفز فوق تلك الحواجز وأن أصبح رجلا مهما في هذه الحياة. تخرجت من الجامعة بتفوق وتوظفت كأستاذ جامعي. في نفس الوقت أحببت فتاة كانت طالبة في كلية الصيدلة. كان الفارق بيننا رهيبا ماديا واجتماعيا.
مات أبي فجأة. كافحت أمي بصلابة من أجل إعاشتنا. في هذه الظروف تقدمت لخطبة فتاتي. رفض أهلها وتعرضت للأذى والتحقير من أسرتها. على طريقة الأفلام العربية بالأبيض وألأسود قررت أن أفعل كل شيء لكي تصبح هذه الفتاة زوجتي. في بلدي كان ذلك بحكم المستحيل. وقررت السفر الى بلاد الأحلام والفرص المتاحة أميركا. استطعت أن أدخل إلى الولايات المتحدة بطريقة غير قانونية. غامرت وتحملت عذابات ومشاكل وأحزان رجل وحيد يعيش في مجتمع غريب، هارب من القانون ومن الذكريات من أجل فتاة يحبها ويريد أن يتزوجها.
أخذت أبحث عن قريب لي هاجر منذ فترة طويلة وعثرت عليه بعد بحث مضن، ولكنه رفض مساعدتي بأي شكل، ورفض اقامتي معه بعد ما علم أنني هارب من القانون.
وتابع الشاب: نمت ليالي طويلة وعديدة في الحدائق والموتيلات المتطرفة، حتى شاءت الاقدار أن أعمل عند صاحب أحد الموتيلات. لم يسألني صاحبه عن شيء أكثر من خبرتي في العمل، فقلت إنني خريج جامعة وكنت أستاذا فيها، ولديّ إلمام في ادراة الأعمال، ربما تحركت في نفس الرجل الرحمة ورق لحالتي المزرية وألحقني بالعمل الذي كان يقوم به مع عامل وعاملة عجوزين مثله.
تفانيت بالعمل. وخلال شهور قليلة أصبحت أدير الموتيل ومطعم البيتزا التابع له. تحسن العمل بصورة ملفتة وبعد عدة أعوام مات صاحب العمل وكانت المفاجأة أنه أوصى لي وللعاملين بكل ما يملك. لم يكن لديه ورثة سوى أخ يعيش في روما. أرسلنا له بالخبر ولم يرد.
مضت ثلاثة أعوام أخرى. أصبحت مواطنا أميركيا أملك ثروة لا بأس بها بعد أن وسعت نشاطي التجاري. خلال هذه الأعوام وكل هذا الكفاح، كانت فتاتي في الوطن، ما تزال تحت جلدي، كنت أكتب اليها فترد أحيانا ولا ترد أحيانا أخرى. كنت أتحدث اليها بالتلفون تشجعني مرة وتصدمني مرات، لكن معاملتها لي تحولت ايجابيا عندما علمت أنني صرت أملك المكانة الاجتماعية والثروة المادية. اتفقنا على الزواج. عدت الى أرض الوطن وقد تغير كل شيء ورحب بي أهلها.
.. يتبع
Leave a Reply