أدركت أن الحياة لم يبق فيها إلا ساعات. إنها ترقد الآن تنتظر الموت وعمرها لا يزيد على الأربعين عاما. تنتظر الموت وحيدة دون أن تنجب من يبكي عليها ودون أي علاقة في العالم إلا هذا الرجل القابع مثل الكلب الأمين في رواق المستشفى البارد ينتظر الإذن منها بالدخول. قضى الليل كله على مقعد خارج غرفتها ولكنها رفضت أن تقابله، وهو الرجل الوحيد الذي أحبته والذي لم تره منذ اثنين وعشرين عاما.
كانت بالوما، ابنة نبيل اسباني عاش في أميركا الجنوبية ويملك ثروة ضخمة، عاد إلى المملكة المتحدة بابنته الوحيدة لتكمل دراستها الجامعية. كانت فتاة أنيقة، متألقة بجمالها الذي يجمع بين دم الاسبان الحار الذي ورثته عن أبيها وجمال أمها الانكليزي المترفع.
في الجامعة، وحيث كانت محط أنظار الجميع، أحبت بالوما زميل الدراسة تشارلي الذي كان شخصية مناقضة تماما للفتاة المرحة. كان أفقر طالب في الجامعة وأكثرهم انطواء على نفسه وأقلهم مشاركة في الحفلات والمناسبات، ملابسه القاتمة، وصمته الحزين، لفت نظر الفتاة التي انتخبت مرارا ملكة للجمال. لم تفز بكلمة “أحبك” منه إلا بعد عامين، وبعد أن اعترفت هي له بحبها؟. بدأت تدخل معه عالما مختلفا. فهو قارئ ممتاز، و مشروع كاتب. عرفت بالوما أن هناك عالما آخر خلف عالم الأزياء والحفلات والبذخ.. عالم زاخر من القراءة والتأمل والإبداع؟.
في سنته الثالثة من الدراسة كتب تشارلي أولى رواياته. لم تفز بالإجازة إلى النشر. أرسل نسخة إلى دار نشر أميركية متواضعة. وافقت دار النشر على شراء الرواية وخلال شهور كانت “ساعات الليل” من الكتب الرائجة وسرعان ما طلب منتج من هوليود إلى المؤلف الشاب يطلب منه الحضور للتعاقد على القصة لإنتاجها فيلما.
لم تسع الحبيبان الشابان سماء الفرح والأمل. وطار تشارلي إلى هوليود، وكانت المكالمات التلفونية المحمومة والرسائل الطويلة المليئة بالأحلام بين الحبيبين. بعد فترة، بدأت مكالمات تشارلي تقل وتتباعد، ورسائله أيضا قبل أن تنقطع تماما.
علمت بالوما أن تشارلي انتقل إلى مسكن آخر دون أن يترك عنوانه الجديد أو رقم تليفونه. حينها دخلت بالوما عالما من الصمت والتعاسة. مات أبوها النبيل وتركت أمها انكلترا وتزوجت رجلا آخر في استراليا.
بعدما انتهت بالوما من دراستها الجامعية، راحت الى هوليود لتبحث عن تشارلي. لم يكن صعبا أن تجده. فوجئت به رجلا آخر. كل شيء تغير، ملابسه الأميركية وقطعة اللبان في فمه. لم يستقبلها بحرارة، دعاها للغداء مع الممثلة الناشئة التي تزوجها. راح يتحدث عن ذكرياتهما المشتركة أيام الجامعة في لندن بطريقة هزلية. استئاذنت بالوما في مغادرة المائدة الى الحمام. وغادرت المطعم والمدينة واستقلت أول طائرة عائدة الى لندن.
مضت سنوات عديدة. تحولت بالوما الى آلة حاسبة بلا عواطف. لم تحدث أحدا بما جرى. كل تركيزها كان على الحفاظ وتنمية ثروة والدها التي تركها لها.
في هوليود، راح نجم تشارلي ككاتب قصة وسيناريو يخبو تدريجيا. أدمن الخمر والمخدرات وتركته زوجته. غدا عبئا على أصدقائه وبدأ يعاني من تجاهل الجميع.
تذكر بالوما. أرسل لها رسالة طويلة يشرح لها حاله، ويطالبها بالصفح والغفران، وكان ردها له شيكا بمبلغ خمسين ألف دولار بدون أن تكتب له رسالة.
كتب لها يشكرها. لم ترد عليه. كتب لها مرارا أكثر من عشرات الرسائل دون أن يتلقى أي رد منها. اشترى تذكرة سفر الى لندن. سأل عنها، قالوا له إنها في المستشفى تقضي أيامها الأخيرة بعد أن فتك بها المرض الخبيث. حاول أن يقابلها، أن يراها، أن يقول لها كلمة وداع. ولكنها قالت..لا.
سار بعيدا في جنازتها التي لم يسر فيها إلا عدد قليل من الأصدقاء. وانكشف سر الرجل الهزيل الطويل بعد أن أطلق الرصاص على نفسه، وآثر أن يموت معها كما مات روميو مع جولييت رغم اختلاف الأسباب والمواقف والتاريخ.. هذا هو الحب وإلا.. “بلاش”.
هل كان يكفي انتحاره للتكفير عما فعل؟ وهل كان بإمكانها أن تغفر له؟ أسئلة لم تعد لها قيمة كما روت الكاتبة “ريتا بلانشير” التي كتبت القصة.
Leave a Reply