أحب خالي زوجته وعشقها حتى آخر يوم من عمره. كان دائم التغزل والتعبير عن ولهه والتقرب اليها وطلب رضاها. لم يهمه سماع التعليقات الساخرة عنه في مجتمع الريف حيث لم يتعود أحد التصريح بالحب، والرجولة في القرى تعني الأمر والنهي والخشونة في التعامل مع المرأة، الأنثى، واعتبارها حرثا لإفراغ شهوات الذكر ووعاء لحفظ النسل.
أحبها خالي بصدق وتمناها. ولولا تقاليد العائلة التي تقضي بأن ابن العم هو زوج المستقبل لابنة عمه لما نالها. هي رضخت لعادات القبيلة. تزوجته دون قبولها ورضاها. ربما لأن أحدا لم يسألها. كان قلبها كالطائر المسجون الذي يعشق الانطلاق بحرية في مكان آخر ومع طائر آخر.
كشابة جميلة وصغيرة أخفت مشاعراً وأحلاما. في المقابل، عجز خالي، رغم عشقه وحبه لها، أن يشعل فتيل الرغبة في قلبها. ارتضى أن يكون العاشق لها وهو الرجل الوسيم الذكي وصاحب الدكان المميز في بلدته ومحيطه.
استمر زواجهما لأكثر من خمسة عقود. عاشتها معه، صابرة، مبتسمة، ولدت العديد من الأبناء والبنات، وبقيت دوماً شريكة لزوج محب ومخلص لها، ولكنه عاجز عن إذابة البرودة وإشعال جذوة الحب في قلبه كما كان يأمل ويتمنى.
طوال تلك السنوات، لم تتذمر ولم تشكُ فيها. بقيت امرأة خالي، مثل جارة العصافير المنطلقة بحرية بمنديلها الأبيض والمكوي دائما، كمرج الثلج الأبيض يغطي هضاب وسفوح القرية. كان خالي يغمرها بعشقه وهيامه. وكانت هي تغمر الجميع، إلاّه، بمودة حارة وشلال فرح مثل أحضان الأم المشتاقة.
لقد أحبّت الجميع. وبادلها الحب العائلة والأولاد والأحفاد والأقارب والجيران، أحبوها لطريقتها الفريدة في التعبير وإظهار الحب لمن حولها بالأكل وملاحقتهم بما أعدته من الطعام الشهي المذاق. وكان الجميع يعلم أنها لو طبخت التراب يطلع من يديها الكريميتين طعاما شهيا لذة للآكلين.
كانت، رحمة الله عليها، تطعم وتحضر كل يوم أكثر من سفرة طعام وأكثر من “برانش” أو عصرونية، وتعيش الأعياد والمناسبات كوليمة حب تهب فيها حنانها الفائض، الذي لا تجد له من تعبير آخر غير إعداد موائد الطعام لزوجها وأولادها ولعائلتها. وفي آخر الليل تنام دون أن ينتبه أحد لما تعانيه من جوع للحب المفقود ورد الجميل، حتى استنفدت طاقة الاحتمال والرغبة في الحياة التي عاندتها طويلا وسرقت منها أحلام الحرية والفرح.
كانت ملامحها الطيبة جوازاً لمحبة الجميع. وأنا أحببتها ربما أكثر من أمي، كونها الوحيدة التي كانت تجد متسعا من الوقت لتسمعني. وفي كل سنة وفي عيد الحب أستحضر ذكراها الطيبة وقصة الحب النادر الذي كان يجمعها بالمرحوم، قيس بن الملوح، خالي.
قسوة الحرب في لبنان، وهجرة الأبناء والبنات، دفعها لترك بيتها وقريتها، واضطر خالي مكرها أن يترك كل شيء حتى دكانه الأثير، ويلحق بها إلى أميركا. هدّها الوجع في الغربة وأحزنها البعد عن وطنها المجروح بالاحتلال والحروب، فأنكفأت امرأة خالي على نفسها. غابت ابتسامتها المشرقة وذبلت شفتاها الرقيقتان كاقحوانة كان النسيم يخدشها. فقدت القدرة على الكلام ودخلت في غيبوبة صمت رهيبة. فقط عيناها الجميلتان كانتا تدوران وكأنها ترى وتسمع وتتكلم بهما.
طالت رحلتها مع المعاناة والوجع. بقي خالي بقربها، محبا وعاشقا لها وناذرا نفسه لخدمتها وتدليلها على قدر استطاعته، حتى رجعت نفسها الى ربها راضية مرضية. يوم جنازتها، بكاها خالي بحرقة ولوعة وهي ترقد كهالة من نور في تابوت الموت.
عزت الحياة على خالي الطيب بعد رحيل حبيبته وزوجته. رفض الكلام والعيش ولم يمكث بعدها الا قليلا ولحق بها الى الحياة الآخرة.
في عيد الحب، ألف وردة حب لروح الراحلة امرأة خالي، ولروح خالي ذي القلب العاشق الوفي والنابض بالحب حتى “من غير أمل”.
Leave a Reply