نبيل هيثم – «صدى الوطن»
فـي نيسان (أبريل) من العام ٢٠٠٣ وقف الرئيس الأميركي السابق جورج بوش على سطح حاملة الطائرات ليعلن ان «المهمة انجزت». كان ذلك تتويجاً لعملية غزو العراق واحتلاله.
قبلها بأيام، كان جنود أميركيون يغطون رأس تمثال الرئيس العراقي صدام حسين، ويربطون قاعدته بجنزير موصول بإحدى مدرعاتهم تمهيدا لاسقاطه.
أنصار مقتدى الصدر يعتصمون أمام مبنى البرلمان العراقي وسط بغداد.(رويترز) |
اختار الأميركيون يومها اقتلاع تمثال صدام حسين كصورة بالغة الرمزية، للتدليل على أن الغزو العسكري وحده القادر على اقتلاع «الديكتاتوريات»، وبأن طائرات الموت التي تلقي صواريخها الفتاكة على كل ما هو متحرك ما هي إلا أداة لـ«معمودية النار» لمولود جديد اسمه «الديمقراطية»، بحسب المدافعين عن الغزو الأميركي، من عرب وعجم.
تثبيت العراق بالطائفـية
لم تكد تمضي اسابيع قليلة حتى تبين أن الإخراج «الهوليوودي» لـ«تحرير العراق» هو فـي واقع الأمر تجميل لعملية طويلة الأمد تهدف الى تدمير بلاد الرافدين وتقسيمها، وتحويلها الى نموذج يمكن تطبيقه لاحقاً على باقي دول المنطقة العربية، وهو ما اتضح بعد عشرة اعوام، حين سعى الغربيون الى تطبيق هذا النموذج، بنسخة معدلة واكثر توحشاً، فـي سوريا.
ويبدو أيضاً أن النموذج السوري المعدل قد بات بدوره مُلهماً لاشباع غريزة الانتقام لدى الولايات المتحدة، التي خرجت مهزومة من العراق قبل ست سنوات، والتي لا يخفى على أحد الدور الذي قامت به الولايات المتحدة فـي تخريب وتفتيت العراق بدءاً بحل الجيش العراقي واجتثاث البعث (نواة داعش) ووضع دستور طائفـي لتغذية النزعات الانقسامية فـي شمال وغرب البلاد.
النموذج اللبناني -بدستوره الطائفـي الذي خلفه الفرنسيون- أيضاً بدا بدوره وصفة أميركية للعراق، وربما لسوريا مستقبلاً، فحيث يكون النظام السياسي قائماً على المحاصصة الطائفـية، يمكن أن تكون النتيجة بناء شكل من أشكال الدولة قائمة على الزبائنية السياسية، فـيسعى كل مكوّن سياسي الى الاستحواذ على حصة سياسية او اقتصادية، فـيستشري الفساد، الذي يبقى أمراؤه محصنين، طائفـياً او مذهبياً او عرقياً، من أية مساءلة، فتصبح أية دعوة الى الاصلاح اعتداء على طائفة أو ملّة، وتتحول كل حركة شعبية مطالبة بالتغيير الى مشروع فتنة دامية.
هذا ما حدث العراق بالفعل قبل ما يقرب من أربعة أعوام، فعلى بعد نحو مئة وعشرة كيلومترات الى الغرب من بغداد، خرج مئات الآلاف من المواطنين البسطاء فـي الرمادي، عاصمة محافظة الانبار، رافعين شعارات تنادي بالمساواة والحقوق.
كثيرون قالوا يومها علناً ان الحراك الشعبي الانباري فـي تلك الفترة كان صافـياً ومدفوعاً بنوايا حسنة، لكن كثيرين أيضاً، وفـي ظل التركيبة الطائفـية التي وضع لبناتها الأولى بول بريمر، تعاملوا مع القضية على أنها خطة «سنية» لاسقاط حكومة نوري المالكي «الشيعية».
على هذا الأساس، وبعد مرور أكثر من عام من الاعتصام السلمي، سقطت ذات يوم جملة «قادمون يا بغداد» من أفواه المعتصمين كأسلوب من أساليب الضغط على الحكومة لتلبية مطالبهم. كان ذلك كافـياً لاستنفار المكونات السياسية السنية تمهيداً لنشأة «داعش» و«غزوة الموصل».. فكان ما كان!
كسر قواعد اللعبة
ضمن هذا الاطار العام، يمكن مقاربة الجلبة السياسية التي يشهدها العراق اليوم، بعد خروج الآلاف من سكان بغداد والمدن المجاورة، بدعوة من زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر، فـي تظاهرات حاشدة ضد الفساد السياسي والمالي، سرعان ما انتشرت كالنار فـي الهشيم، لتصل الى قلب البرلمان وتخترق الحصون الأمنية المحيطة بـ«المنطقة الخضراء»، التي بدت فـي الظاهر حصناً للنخبة الحاكمة ورعاتها الخارجيين من العمليات الإرهابية، فـيما هي فـي الواقع حصناً لهؤلاء من غضب الشعب.
هذه المرة كسر المتظاهرون قواعد اللعبة، بعدما اكتمل نصابهم داخل قبة البرلمان، وجلسوا على مقاعد أعضاء مجلس النواب العراقي.
لا يجادل أحد بشأن المطالب المشروعة للمتظاهرين، أو حتى فـي حراكهم الاحتجاجي تحت قبة البرلمان، لكن كثيرين من العقلاء ينظرون الى الأمر من زاوية مختلفة، ويرون أن الحراك الشعبي الأخير، وبتجاوزه الخطوط الحمراء التقليدية، قد يدفع بالأمور نحو تطورات اشد وطأة من كارثتي الموصل والرمادي، وخصوصاً أن مشهد اقتحام «المنطقة الخضراء» ومقر البرلمان شديد الرمزية، لكونه يمثل سقوطاً لهيبة الدولة العراقية، أو ما تبقى منها.
أبعاد إقليمية ودولية
كما لا يشكك أحد فـي أن ثمة قوى إقليمية ودولية تسعى الى تفجير الاوضاع الداخلية فـي العراق، فـي سياق الحروب الباردة الصغيرة والكبيرة والصراع على النفوذ فـي الشرق الأوسط. ويبدو واضحاً فـي هذا الاطار ان ثمة طرفـين يعملان فـي اتجاه نقيض، الاول تمثله السعودية التي تقودها الطموحات الجنونية لولي ولي عهدها محمد بن سلمان، الذي لن يتردد فـي اشعال الدول العربية لضمان وصوله الى العرش بعد وفاة ابيه الملك سلمان، والثاني تمثله إيران الراغبة فـي ضبط التوازن الداخلي فـي العراق، خصوصاً أن أمنها القومي سيكون مهدداً فـي حال انفجار الاوضاع عند خاصرتها الغربية.
وبين هذين الخطين، ثمة خط يسير فـي الوسط، وتمثله الولايات المتحدة، التي تحرص على ابقاء الستاتيكو السياسي فـي العراق، أقله الى حين انتخاب الرئيس الأميركي الجديد فـي الخريف المقبل، وتسلمه مفاتيح البيت الابيض فـي مطلع العام 2017.
من هذا المنطلق يمكن فهم، على سبيل المثال احتفاء وسائل الاعلام بالحراك الشعبي الذي يقوده السيد مقتدى الصدر، وذلك فـي اطار مساعيها الهادفة الى دفع الامور باتجاه الفتنة الداخلية، ويمكن أيضاً تحديد سبب استدعاء إيران لزعيم التيار الصدري، للدفع، على ما يبدو، باتجاه التوصل الى تسوية سياسية للأزمة، وكذلك سيل الزيارات التي يقوم بها المسؤولون الأميركيون لبغداد بهدف ابداء الدعم لرئيس الوزراء حيدر العبادي.
وبالرغم من أن مصالح الطرفـين الإيراني والأميركي متقاطعة الى حد كبير بشأن استقرار العراق، ولو مرحلياً بالنسبة الى الأميركيين، الا ان السعودية قد تستفـيد من عوامل عدة للدفع باتجاه التفجير، فـي ظل تعقد الأزمة السياسية العراقية يوماً بعد يوم، وتعدد الاجندات والتحالفات الداخلية وتعقدها خلال أقل من شهر.
وقبل أسابيع كان يمكن الحديث عن طرفـين رئيسيين فـي الأزمة العراقية، الأول يمثله المحافظون، الذين يلتفون حول رئيس البرلمان سليم الجبوري، الذين كان خطأهم الرئيسي انتهاك الدستور وممارسة سياسة الهيمنة على باقي الكتل البرلمانية، والثاني فريق النواب المعتصمين، الذين كان خطأهم الأساسي دفع الأمور باتجاه المس بهيبة مؤسسات الدولة العراقية.
وبين الفريقين المتخاصمين الكثير من التقاطعات والتباينات فـي آن واحد لكن مصالحهما المشتركة النابعة من نظام المحاصصة الطائفـية قد تجعل رغبتهما فـي التسوية تساوي فـي فرصها رغبتهما المضي قدما فـي الصراع.
من المستحيل التكهن بما يمكن أن تقود إليه هذه التطورات، خاصة أن الوضع السياسي فـي العراق ملتهب، لكنها تظهر أن مقتدى الصدر، قام بتغيير صورته كونه مكافحا ضد الفساد، وهو قوة لا يمكن تجاهلها، خاصة وان حركته فـي الشارع خلال الاسبوع الماضي أسهمت فـي فرض معادلة جديدة فـي الأزمة السياسية، واضعاً القوى السياسية المتناحرة أمام أمر واقع جديد.
تأثير الحراك الصدري
من الصعب حتى الآن تحديد مستقبل الأزمة السياسية فـي العراق، لكن دخول زعيم التيار الصدري على الخط، وبرغم رفعه سقف الخطاب السياسي واستنفاره الشارع، قد يكون تأثيره ايجابياً من ناحيتين:
الاولى، استشعار قوى المحاصصة السياسية بالخطر الذي يمثله خروج الشعب العراقي ضدهم كلهم، ما يدفعها باتجاه البحث عن تسوية تعيد تجديد نظام المصالحة.
– الثانية، تواصل حالة الضغط الشعبي من جهة، واستمرار الخلافات السياسية من جهة ثانية، بما يعزز من وضع رئيس الوزراء حيدر العبادي وجهوده لتشكيل حكومة تكنوقراط قوية وفاعلة، حيث أن هذه الحكومة، وإن كان تشكيلها لا يزال بعيد المنال، إلا أنها الوسيلة التي تعطي العراق الفرصة لاستعادة الأراضي التي احتلها تنظيم «داعش»، والتصدي للأزمة الاقتصادية.
لعل ما تقدم يقود الى خلاصة واحدة: الازمة العراقية تسير وسط حقل الغام، فهل سيكون مقتدى الصدر قادراً على سحب صواعقها.. هذا ما سيثبته الآتي من الأيام.
اقتحام البرلمان العراقي
اقتحم الآلاف من العراقيين ظهر السبت الماضي «المنطقة الخضراء» وسط بغداد، بعد أن حطموا أجزاء فـي الأسوار الأسمنتية المحيطة بها إثر تأجيل جلسة تصويت البرلمان على تشكيل حكومة جديدة.
ودخل المتظاهرون الى مبنى البرلمان وهم يهتفون «هرب الجبناء».
وذكر مراسل «فرانس برس» أن قوات الأمن كانت موجودة، لكنها لم تحاول منع المتظاهرين من دخول البرلمان.
وكان رجل الدين الشيعي السيد مقتدى الصدر قد دعا إلى تنظيم احتجاجات للضغط على البرلمان كي يوافق على تشكيل مجلس الوزراء الجديد، وهو عنصر مهم فـي برنامج الإصلاح الذي يتبناه رئيس الوزراء حيدر العبادي.
ويدعم الصدر مسعى العبادي لتشكيل حكومة تكنوقراط. واتهم الصدر -فـي كلمة له السبت- ساسة عراقيين بالوقوف عقبة أمام إصلاحات سياسية تهدف إلى محاربة الفساد. وترفض أحزاب قوية داخل البرلمان الموافقة على التعديل الوزاري منذ أسابيع.
ولطالما وجهت انتقادات لنظام المحاصصة الطائفـية فـي المناصب الحكومية، إذ اعتبره البعض مشجعا على الفساد.
وتعهد العبادي، الذي تولى مهام منصبه فـي 2014، بالقضاء على الفساد وتخفـيف حدة التوترات.
رد الحكيم
وفـي موقف لافت قال رئيس «المجلس الأعلى الإسلامي» السيد عمار الحكيم «من أراد الإصلاح عليه أن يسأل عن المشاريع الوهمية التي صرف عليها مليارات الدولارات ومن كان المسؤول عنها ومن وقعها ومن وافق عليها وليس الذين يستغلون الناس البسطاء وهياجهم»، معتبرا أن «اختزال الإصلاح بتغيير الوزراء كذبة كبيرة واحتيال على الإصلاح».
وأضاف الحكيم «نجد أنفسنا ملزمين بالعمل على تشكيل ائتلاف وطني عابر للطائفـية والقومية وسنعمل على ان يكون قوة مؤثرة فـي البرلمان كي يستطيع تمرير التشريعات والقوانين والإجراءات الإصلاحية بعيدا عن الانتهازية والانتقائية والاستغلال».
ولفت الحكيم فـي كلمته إلى أن «هناك حملة شبه منظمة لكسر هيبة مجلس النواب ولن نسمح باختطافه تحت أي مبرر سواء من برلمانيين معتصمين أم متظاهرين منفلتين وسنواجه ذلك مع شعبنا بقوة وثبات».
Leave a Reply