وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
في العراق كما في لبنان تظاهرات ضد الفساد، وهي ليست الأولى في البلدين، فقد واجه النظامان السياسيان في لبنان والعراق، اللذان يستندان إلى التقاسم الطائفي للسلطة، احتجاجات شعبية واسعة النطاق في صيف 2015 تطالب بإصلاحات جذرية.
بداية، اندلعت التظاهرات في العراق، مطلع تشرين الأول (أكتوبر) المنصرم، على خلفية مطلبية بسبب تفاقم الأوضاع المعيشية وتفشي البطالة، لكنها سرعان ما أخذت منحى آخر، وتحوّلت إلى موجات غضب وعنف غير مبرر وسط مطالب بإسقلط الحكومة، علماً بأن هذه التظاهرات حملت في بدايتها طابعاً وطنياً بعيداً عن الطائفية، وبدت كأنها مجرد رد فعل مدني على الأوضاع المعيشية والفساد، إلى حد دفع بالناس للخروج إلى الشارع.
ثمة من دغدغت أحلامه فكرة «ربيع عربي» في العراق، وثمة آخرون رأوا في ما يحصل مجرد «خريف» لن يحمل إلى بلادهم سوى الخراب.
موجة الاحتجاجات الثانية التي بدأت في أواخر أكتوبر ودخلت أسبوعها الثاني، طالت عدة مدن عراقية ووضعت الحكومة والقوى السياسية كافة في موقف حرج جداً، فالوضع خطر وينذر بانزلاق الأمور نحو دورة جديدة من العنف والحروب العبثية والطائفية، التي ما زالت آثارها ماثلة في أذهان العراقيين، ما يضع الجميع من مسؤولين ومواطنين أمام تحدٍ مصيري.
هنا، لا بد من التوقف عند دور المرجعية الدينية في ضبط الشارع وتوجيهه، فقد أعلن المرجع آية الله السيد علي السيستاني عن موقفه وطالب الحكومة بالعمل على تحسين الخدمات، وتوفير فرص العمل للشباب ولكل العاطلين من العمل، وبالابتعاد عن المحسوبية و«المنسوبية» ومحاسبة المقصّرين، أي بعبارة أخرى محاسبة الفاسدين في السلطة بكل مستوياتها.
في المقلب الآخر يبرز سؤال كبير أيضاً عن الدور الذي يضطلع به رجل الدين الشيعي الشاب الفاعل والمؤثر مقتدى الصدر، الذي يعود إليه أمر المجيء بعادل عبد المهدي إلى موقع رئاسة الوزراء، بتحالف معه، ووعد الناخبين بإصلاحات واسعة، بما في ذلك مكافحة الفساد.
إلا أن الزعيم الشاب مقتدى الصدر يركب كل موجة من الاحتجاجات ويؤجّجها، ليمرّر من خلالها مطالبه السياسية. وهذه المرة، وبعد نحو عام من تولّي عادل عبد المهدي منصب رئيس الوزراء، والذي حاول منذ البداية إرضاء كل الأطراف في المعادلة السياسية، أعلنها الصدر صراحة، وطلب من مناصريه المشاركة في التظاهرات وبزخم كبير، كما طلب من وزرائه الانسحاب من الحكومة، وهو ما أعطى دفعاً كبيراً لتلك الاحتجاجات وغطاء سياسياً وازناً كانت تحتاج إليه.
وفي مقترح سارعت الحكومة إلى رفضه، دعا الصدر إلى انتخابات نيابية مبكرة بإشراف أمميّ، و«من دون مشاركة الأحزاب الحالية إلا من ارتضاه الشعب»، في استثناء لم يوضح قصده منه. كما انتقد القرارات التي اتخذها البرلمان الأسبوع الماضي، واصفاً إياها بـ«الصورية» وبأنها «لم تتطرق إلى محاسبة الفاسدين».
وكان البرلمان صوّت على حلّ مجالس المحافظات، وإلغاء مخصصات مالية وامتيازات للرئاسات الثلاث وأعضاء مجلس النواب وكبار مسؤولي الدولة، فضلاً عن تشكيل لجنة، «تمثل كافة المكونات»، تتولى مهمة إجراء تعديلات على الدستور، وتسليمها إلى البرلمان خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر.
وتقرر أيضاً إعفاء قائد عمليات بغداد ونائبه وإحالتهما إلى مجلس تحقيقي بناء على توصية لجنة التحقيقات بأحداث الاحتجاجات الأخيرة، إضافة إلى إعفاء قادة شرطة بابل والناصرية والديوانية وميسان والنجف.
وأورد تقرير اللجنة الرسمي أنه تم التحقق من مقتل 149 مدنياً و8 من قوات الأمن العراقية وإصابة 3,458 شخصاً منذ مطلع أكتوبر.
أجندات خارجية؟
هذه الاحتجاجات يقول كثيرون إنها ثمرة تخطيط متقن، وإنها موجهة من الخارج، وتديرها وتمولها بعض الجهات العربية ولا سيما من السعودية. أصحاب هذا الرأي يستندون في اتهامهم إلى التركيز غير المبرر على استهداف إيران بهتافات المتظاهرين، وتحميلها المسؤولية عن كل ما آلت إليه الأمور من تدهور على الصعد كافة.
هذه الاتهامات يرفضها الدكتور واثق الهاشمي رئيس «المجموعة العراقية للدراسات الاستراتيجية» في بغداد، ويؤكد أن هذه الاحتجاجات غير مسيّسة، لكنه في الوقت عينه لا ينفي وجود أجندة لديها، مثلها مثل أي حركة احتجاج، وفق الهاشمي، ويعتبر أنه لا يمكن إغفال حق شعب ساند الانتخابات وحارب الإرهاب، واليوم يُترك غارقاً في البطالة والفقر، وبالتالي فإن مطالب المحتجين واقعية وناضجة ونابعة من معاناتهم، مع رفضه لبعض الممارسات الغوغائية التي حدثت خلالها، معللاً السبب في أنها تتركز اليوم في بغداد والمحافظات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية، بأن أهل تلك المنطقة يعتبرون أنهم قد ظُلموا كثيراً وهم أبناء الطائفة التي تمتلك في يدها السلطة التنفيذية، وهي الأقوى في البلاد، ولكنها لم تنصفهم.
لا ينكر الدكتور الهاشمي محاولة استهداف الحشد من قبل أطراف خارجيين، وهو الذي كان له دور كبير في الدفاع عن العراق والقضاء على الإرهاب، حتى أن هناك محاولات لزجّه في صراع مباشر، وهو ما يتطلب من قادة الحشد وعياً كبيراً وحرفية عالية لتجاوز الأزمة.
وشدد الهاشمي على دور المرجعية الدينية المهم في الحياة السياسية، وأنها كانت وستبقى صمام أمان للبلاد، وذكر بفتوى الجهاد الكفائي التي أطلقتها حين هاجم داعش العراق، وكيف أنها لطالما وجّهت السياسيين وأرشدتهم، كما أنها أعطت رؤيتها في كتابة الدستور، لذلك فإن كل مكونات الشارع العراقي تثق بالمرجعية وهي في هذا الوقت بالذات تعوّل على الخطاب الأسبوعي يوم الجمعة لتبيان حقيقة الأمور وتهدئة الأوضاع.
وعن السيد مقتدى الصدر يقول الدكتور الهاشمي إن ثمة خلافاً اليوم بينه وبين أعضاء كتلته النيابية، فيما الشارع الغاضب بات واعياً، ويرفض استثمار حراكه من قبل أي من السياسيين والسيد الصدر من بينهم.
البحث جارٍ عن بديل لعبد المهدي
يتوقع المراقبون استمرار التظاهرات وتوسعها في الأيام المقبلة، لافتاً إلى خرق المتظاهرين اليومي لقرار حظر التجوال ليلاً، في إصرار واضح على استمرار حراكهم.
وعن خطاب الرئيس العراقي برهم صالح الذي توجه به إلى الشعب مساء الخميس الماضي، متعهداً بمحاسبة المسؤولين عن الاعتداء على المتظاهرين، اعتبر الهاشمي أنه رسم خارطة طريق ولم يتقدم باقتراحات، مؤكداً حصول اجتماعات كثيرة وما زالت مستمرة، بهدف إيجاد بديل عن رئيس الحكومة الحالي عادل عبد المهدي، واعتبره خطاباً مهماً، وأنه حمل الكثير من الإيجابيات.
وعن احتمال استقالة حكومة عبد المهدي، قال الهاشمي إنها لن تغير شيئاً من واقع الحال، ولن ترضي المحتجين، لأن البديل سيكون من الطبقة الحاكمة نفسها، مقدّراً لعبد المهدي ما قام به، وهو الذي لا يملك حزباً أو تحالفاً يسانده وقد تحمّل الكثير من أخطاء الآخرين، بحسب الهاشمي.
وكان الرئيس العراقي قد أعلن موافقته على إجراء انتخابات مبكّرة بناء على قانون الانتخابات الجديد الذي تمت المباشرة بالعمل عليه ومن المتوقع تقديمه في الأسبوع المقبل.
وأكد صالح في كلمته أن مطالب الشعب وضعت الحكومة على المحك ويجب الاستفادة من هذا الظرف للتقدّم وعدم التراجع إلى الوراء، كاشفاً أنه يتم العمل على التمهيد لحوار وطني من أجل معالجة الاختلالات البنيوية في الحكم بمساعدة نخبة من الخبراء والمستقلين.
صدفة أم تنسيق عالٍ
من أوجه الشبه بين حركة الاحتجاج في لبنان والعراق، تخرج بين الحين والآخر أوراق يُقال إنها تلخّص مطالب الحراك، لكن من دون تحديد هوية كاتبها أو حتى إذا كانت هناك موافقة أو حتى شبه إجماع على ما ورد فيها من قبل المتظاهرين أنفسهم.
والمطالب وإن كانت محقة، لكنها اتخذت في البلدين مطية من قبل بعض السياسيين، الذين ركبوا موجتها، ليصبحوا «أبطالاً ثوريين» يحملون هموم الناس وآلامهم، بينما هم في الواقع أكبر من يتحمل مسؤولية الأوضاع المزرية سواء في العراق أو لبنان، وهم من الأركان الأساسية للفساد ولطالما جيّروا كل مقدرات الدولة لمنفعتهم الشخصية.
نقطة تشابه أخرى لا بد من التوقف عندها، هي تشابه المطالب إن لم نقل تماهيها إلى حد التطابق، بين كل من بيروت وبغداد! وهذا قد يبدو طبيعياً، لأن الفساد نفسه والطائفية نفسها في البلدين، ولكن الحراك الذي بدأ مطلبياً تدرّج بقدرة قادر حتى أصبح سياسياً بنحو شبه كامل، حتى كادت المطالب المعيشية تغيب تماماً عن أجندة هذا الحراك…
يقول مراقبون إنها قد تكون ربما غرفة عمليات واحدة، تصوغ المطالب «الثورية» في وقت واحد لكل من بيروت وبغداد، لكن الأيام ستثبت أن عصر الثورات قد انتهى… فسوريا تشهد، ومصر تشهد، والسودان تشهد…
Leave a Reply