كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لم تعد الأزمة في لبنان، شأناً داخلياً، يتعلّق بمطالب اجتماعية واقتصادية، ومحاربة الفساد، واسترداد المال المنهوب، وإجراء إصلاحات سياسية، وتحقيق استقلالية القضاء، بل باتت مرتبطة بأزمات المنطقة، وصراع المحاور في لعبة الأمم، إذ تحوّلت الانتفاضة الشعبية، التي انطلقت في 17 تشرين الأول الماضي، إلى مطية تسعى دول كبرى وإقليمية إلى استغلالها واستخدامها لتحقيق مصالحها الاستراتيجية في لبنان والمنطقة.
إفادة فيلتمان
لا بد من التمعن بإفادة السفير الأميركي الأسبق في لبنان، جيفري فيلتمان، أمام أعضاء لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، حول كيفية التعامل مع الانتفاضة اللبنانية والاستفادة منها لحماية مصالح واشنطن في الشرق الأوسط.
فقد جاء الاستماع إلى فيلتمان لما لديه من خبرة في الشأن اللبناني، كما في المنطقة حيث عمل دبلوماسياً في بيروت لسنوات، وهو الذي رعى «ثورة الأرز» في العام 2005، ومهّد لها في «لقاء قرنة شهوان» بغطاء بكركي ومشاركة شخصيات مسيحية مناهضة للوجود السوري.
ما قاله فيلتمان فضح المستور، حول ما تريده الاستراتيجية الأميركية من الحراك الشعبي، الذي كان عفوياً وعبّر عن أوجاع الناس من الحالة الاقتصادية المزرية وفساد الطبقة السياسية التي دفعتهم إلى الفقر والبطالة والهجرة، فرأى السفير الأميركي الأسبق أن على واشنطن أن تستفيد مما يجري في الساحات والشوارع، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية التي تقوم على عزل «حزب الله» عن الشعب اللبناني، وتقويض وجوده في الحكومة برفض مشاركته فيها، وتشويه صورته على أنه هو مَن يدافع عن الفساد، باعتباره شريكاً في السلطة، ويقيم «دويلة» له «فوق سلطة الدولة اللبنانية التي يهيمن على قرارها».
فيلتمان، لم يخف رغبةً أميركية قديمة بتحويل الجيش اللبناني إلى قوة معادية لـ«حزب الله»، وقد جرت محاولات أميركية سابقة لخلق صدام بينهما وفشلت.
وبعد أيام معدودة على شهادة فيلتمان، سأال العميد المتقاعد في الجيش مارون حتّي الذي يشغل منصب مستشار عسكري وأمني لرئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري، في مؤتمر في البحرين، عن موقف الإدارة الأميركية إذا وقع صدام بين الجيش و«حزب الله».
وكان فيلتمان قد نصح خلال شهادته، بضرورة التركيز على خلق تناقض بين الجيش و«حزب الله»، واستغلال مجريات الانتفاضة للبناء عليها وتوجيهها ضد الحزب.
وفي الواقع جرت عدة محاولات لدعم شخصيات شيعية معارضة لـ«حزب الله»، وكانت في غالبيتها شخصيات يسارية منضوية في الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي، أو قوى أخرى، وهي تشارك في الحراك الذي يجري في بيروت كما في الجنوب وتحديداً في منطقتين هما كفررمان قرب النبطية وصور. وقد سبق للأمين العام لـ«حزب الله» أن سمى هؤلاء بـ«شيعة السفارة»، بعدما كشفت تقارير أميركية عن تلقيهم دعماً مالياً، لخلق حالة مناهضة لسلاح «حزب الله».
الهدف سلاح المقاومة
وما تريده أميركا حالياً في لبنان ودول أخرى هو الحد من نفوذ إيران المتزايد من خلال ما تسميه واشنطن أذرعتها العسكرية ومنها «حزب الله» الذي بات له دور إقليمي من سوريا إلى اليمن والعراق وفلسطين، وهي قوة لا يخفيها السيد نصرالله، ولا ينكر علاقتها بالجمهورية الإسلامية الإيرانية وأذرع محور المقاومة في المنطقة، مثل «الحشد الشعبي» في العراق، و«أنصار الله» (الحوثيون) في اليمن، وحركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في فلسطين مع فصائل فلسطينية أخرى، إضافة إلى «الحرس الثوري الإيراني».
كما في لبنان، تجري مواجهة النفوذ الإيراني في العراق بانتفاضة شعبية ضد الفقر والفساد، حيث يتشابه ما يحصل في بلاد الرافدين مع ما يجري في لبنان، وهو ما أشار إليه بصراحة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو، الذي ومع بداية الأزمة في لبنان، ربطها بما يحصل في العراق، وكذلك مع تظاهرات جرت في الداخل الإيراني، وهذا يدل على أن ثمة مصلحة أميركية في الحراك الشعبي، وقد أعلن فيلتمان بوضوح، بأن مصالح واشنطن تتلاقى مع المتظاهرين والمعتصمين في لبنان، لكنه حذر في الوقت نفسه من أن انحسار النفوذ الأميركي قد يتم تعويضه بسرعة من قبل قوى عالمية أخرى لها مصالح استراتيجية في لبنان، مثل روسيا والصين، حيث دعا السيد نصرالله إلى التعاون والتعامل الاقتصادي معهما والتحرر من التبعية للغرب والدولار.
تشكيل الحكومة
وتزامن موقف فيلتمان الذي رسم في شهادته خارطة طريق للأزمة اللبنانية، مع تواصل البحث في شكل الحكومة، التي استقال رئيسها سعد الحريري واعتذر عن إعادة تكليفه من دون الاستجابة لشروطه التي وصفت بالتعجيزية.
موقف الحريري فاجأ أركان الحكم، لاسيما رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي عقد معه «التسوية الرئاسية»، إذ تمسك الحريري بمطلب تشكيل حكومة «تكنوقراط» لا تضم «حزب الله» أو «التيار الوطني الحر»، وهو ما عبر عنه فيلتمان بدعم مطلب تشكيل حكومة غير سياسية، مستقلة ومن أصحاب الاختصاص، وهو مطلب سبق «للقوات اللبنانية» أن طالبت به بعد استقالة وزرائها من الحكومة، وهو أيضاً ما يميل إليه «الحزب التقدمي الاشتراكي».
في المقابل طالب «حزب الله» و«أمل» و«التيار الحر» بترؤس الحريري للحكومة على أن تكون مختلطة من سياسيين وتكنوقراط (تكنوسياسية) لكن الحريري رفض وأصرّ على أن تكون حكومة «تكنوقراط» من اختياره، في انقلاب صريح على نتائج الانتخابات النيابة التي أجريت العام الماضي.
فيلتمان الذي نصح واشنطن، بدعم الحراك الشعبي يضع المنتفضين عملياً في خدمة المصالح الأميركية، سواء عن علم أو دون علم، وإن كان قسم كبير من الحراك، يرفض الخضوع للشروط والمصالح الأميركية والإسرائيلية ويتمسك بالمقاومة وسلاحها رغم المحاولات الجارية لوضع الطرفين بمواجهة بعضهما البعض.
وكان السيد نصرالله قد أعلن أنه يتبنّى مطالب الانتفاضة، لكنه حذّر من استغلالها، وهو ما كشفه فيلتمان باقتراحه بتشديد الحصار المالي على لبنان، الذي بدأ يعاني من نقص في السيولة، كما في المواد الغذائية والتموينية، وهبطت القدرة الشرائية لدى المواطنين الذين بدأ القسم الأكبر منهم يتعرّض لخفض رواتبه إلى النصف إضافة إلى الصرف من العمل مع إقفال العديد من المؤسسات.
إفقار اللبنانيين
كرة النار ألقيت إذن، في حضن السلطة والأغلبية النيابية الحالية، فالوضع المالي والاقتصادي بعد شهر من الحراك أصبح على شفير انهيار شامل نتيجة سنوات طويلة من السياسات المالية والاقتصادية الخاطئة التي أغرقت لبنان بالديون والفوائد، وحولت الاقتصاد نحو الريعي، القائم على الخدمات والسياحة، دون تعزيز قطاعات إنتاجية أخرى في الصناعة والزراعة واقتصاد المعرفة والتكنولوجيا، حتى أصبح اللبنانيون اليوم أمام خيارين، إما الخضوع أو المغامرة السياسية بمحاولة الخروج من عنق الزجاجة بحكومة أغلبية، ستكون عرضة لتحديات داخلية وخارجية شتى.
وأمام الوضع المأزوم الذي ينذر بتطورات خطيرة عند أي منعطف أمني، يجد اللبنانيون أنفسهم –بحسب فيلتمان– بين خيارين: حكومة فيها «حزب الله»، أو حكومة «تكنوقراط» حريرية تجلب الازدهار وتحصل على المساعدات المالية.
تتعقّد الأزمة السياسية الداخلية، بعد وضعها في إطار صراع المصالح الاستراتيجية واستهداف سلاح المقاومة ودوره الإقليمي، وتزداد الصورة تعقيداً مع تصاعد مخاوف واشنطن من امتداد النفوذ الروسي إلى المياه الإقليمية اللبنانية من بوابة استخراج الغاز الذي يمكن أن يغير المعادلة الاقتصادية في لبنان ويعفيه من القبول بشروط الغرب للخروج من الأزمة.
Leave a Reply