وليد مرمر
طوى الحراك اللبناني شهره الثالث ويبدو أنه دخل مرحلة جديدة تنذر بتدهور الأمور إلى مرحلة لا يحمد عقباها. فمع تفاقم الوضع المالي والاقتصادي، وجمود الوضع السياسي، يبدو أن الأمور آيلة إلى انفجار اجتماعي قد يسقط الهيكل على رؤوس الجميع ويدخل البلد في نفق مظلم يؤدي إلى المجهول والفوضى.
وفي دراسة متأنية للحراك وما رافقه من تطورات، لا يمكن للمراقب إلا أن يلحظ عدة أمور سنحاول إلقاء الضوء على أهمها في ما يلي.
لقد بدأ الحراك الشعبي في الأسبوع الأول عفوياً بتأييد من معظم شرائح الشعب اللبناني بمختلف أطيافه، ثم ما لبث أن أصابه «الجزر» فانحسر ليقتصر على منظمات المجتمع المدني وبعض الأحزاب اليسارية والعلمانيين و«المهمشين سياسياً»، وذلك بسبب أمور عدة أهمها فقدان القيادة، وغياب الرؤية، وتفشي مظاهر الفوضى مثل حرق الإطارات وقطع الطرقات، وإطلاق الشعارات النمطية الفارغة التي تجلّت بـ«كلن يعني كلن»، وصولاً إلى اللجوء للعنف وتخريب الممتلكات الخاصة، كبديل عن «السلمية».
إن فقدان الزخم الذي كان يحرك المنتفضين في الأيام الأولى وعدم القدرة على ملء الساحات تحت شعارات واضحة ومحددة، دفع الـ«ثوار» إلى أساليب بغيضة للفت الأنظار كقطع الطرقات وإشعال الإطارات. لكن هذا الخيار كان سيفاً ذا حدين حيث أنه أفقد الحراك رويداً رويداً، الالتفاف الشعبي حول، بسبب الممارسات الفوضوية التي انعكست سلباً على الحياة اليومية المتأزمة أصلاً.
غير أن الأمور أخذت منحىً آخر فائق الخطورة خلال الأسبوع الماضي، سيما بعد «غزوتي» الحمرا ومار الياس وما رافقهما من عنف ممنهج أدخل الحراك من باب واسع في مرحلة الشغب و«العصيان المدني».
كان لافتاً في «الغزوتين»، عدم تدخل الجيش اللبناني لحفظ الأمن رغم فداحة الخسائر المادية التي ألحقت بالممتلكات الخاصة، ويُرجع البعض ذلك إلى رغبة مبطنة لقائد الجيش بعدم التصادم مع المتظاهرين ربما رغبةً بدور سياسي مستقبلي.
لكن ثمة ملاحظتان إيجابيتان تصبان في خانة الحراك، أولهما التركيز في عمليات تحطيم الواجهات على المصارف (رغم أن بعض المحال التجارية والسيارات نالت نصيبهما ولكن ليس بطريقة ممنهجة)، والثاني عدم حصول عمليات نهب رغم إمكانية حدوث ذلك في ظل غياب أي تواجد أمني، فلقد شاهد اللبنانيون على شاشات التلفزة، كيف لم يمس المتظاهرون، الحواسيب أو الأثاث أو الأشياء الأخرى داخل المصارف.
في ثكنة الحلو، وكمحاولة للضغط على القوى الأمنية لإخلاء سبيل الموقوفين بعد أحداث الحمرا، عمد فريق المتظاهرين إلى رشق القوى الأمنية بالحجارة والمفرقعات النارية، وهو ما يجيز للقوى الأمنية في أي بلد استخدام القوة للسيطرة على الوضع. وبينما كان ينبغي على السلطة سحب عناصر الأمن إلى داخل الثكنة لنزع فتيل الغضب، عمدت إلى الرد بالمثل على راشقي الحجارة مستعملة أحياناً، القوة المفرطة التي أدت إلى سقوط جرحى من الجانبين.
ازدياد وتيرة الغضب والعنف، يمكن تفسيره بحالة السأم التي أصابت المشاركين في الحراك، سيما بعد التلكؤ في تشكيل حكومة الإنقاذ الموعودة التي طال انتظارها لمدة شهر، رغم أن فداحة الوضع المتأزم يستدعي الاستعجال تفادياً للانهيار الوشيك. فكم كان حرياً بكل المشاركين في عملية التأليف الدعوة إلى اجتماع مغلق لا يُسمح لأحد بمغادرته حتى يتم التشكيل، كما يحدث في الفاتيكان لدى انتخاب البابا حيث يجتمع الكرادلة ولا يغادرون حتى ينبعث الدخان الأبيض وتتم تسمية بابا الكاثوليك الجديد.
لكن يبدو أن الرئيس المكلف والسياسيين ما زالوا يعيشون ترف المماطلة لتسجيل مكاسب أكثر في توليفة الحكومة، غير آبهين بالأحوال المزرية التي وصل إليها اللبنانيون.
الخطأ الجسيم الذي وقع فيه المنتفضون هو غياب أو تغييب القيادة. إذ أن غياب القدرة على التوافق على أجندة موحدة، تتمثل بقائد أو مجلس قيادي، كان من الأخطاء الفادحة التي آذت الحراك وسلبته القدرة على المبادرة.
فعلى سبيل المثال، يمكن الاستفادة من الثورة الإسلامية في إيران، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، بملاحظتين هامتين، هما:
1– اجتماع كل فئات الشعب الإيراني وجميع أطيافه السياسية، الإسلامية واليسارية والعلمانية والحركات النقابية والطلابية سواء، على دعم قائد الثورة روح الله الخميني الذي أجرى استفتاء عقب نجاح الثورة، اختار من خلاله الإيرانيون النظام الإسلامي كنظام للحكم. ومع غياب القيادة في الحراك اللبناني، ومع استبعاد فكرة الاستفتاء التي يرفضها الجميع خوفاً من التوازنات الديموغرافية، ومع الغياب الفاضح للحركات النقابية، تصبح المقارنة مع الثورة الإسلامية في إيران بلا جدوى، ولكن لا بأس بالاعتبار من نقاط القوة فيها والتأسي بمكامن نجاحها.
2– إن الفتوى المتبصرة التي أصدرها الإمام الخميني بعدم التعرض للجيش رغم اعتداءاته وبطشه بالثوار، تكاد تكون تجربة فريدة في التاريخ القديم والمعاصر. فقد واجه الشعب الإيراني العنف المفرط والقتل والتنكيل، بسلمية قل نظيرها، تتقزم أمامها حتى تجربة غاندي في مقارعة الاحتلال البريطاني.
وقد أتت تلك الفتوى أكلها، بعد تقديم آلاف الشهداء على مذبح الوطن، دون المس بالجيش الذي تحول بعد فترة وجيزة إلى خندق الثورة والثوار. فوفرت فتوى الإمام إراقة شلالات من الدماء ومهدت الطريق للجيش لكي يصبح العمود الفقري للجمهورية والذي لولاه لما استطاعت إيران الصمود في وجه الحرب «الصدّامية» لاحقاً.
لاحقاً، قامت المحاكم العسكرية في إيران بمحاكمة بعض الجنرالات الذين أدينوا بجرائم حرب ضد الإنسانية دون المس بهيبة الجيش وجنوده. في المقابل، الكل يتذكر كيف حرص بول بريمر، حاكم العراق السابق، وعن سبق إصرار وتصميم ومكر، على حلّ الجيش العراقي بحجة عقيدته البعثية، ليحرم العراق حتى يومنا هذا من امتلاك جيش وطني فاعل.
وبالعودة إلى لبنان، ينبغي على المحتجين عدم الخروج من عباءة «السلمية» وعدم تكرار ما حصل خلال الأسبوع الماضي، والالتزام بتجنب التصادم مع القوى الأمنية وعدم إثارة الشغب والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة كيما لا تفقد الانتفاضة «شرعيتها الثورية».
بالمقابل، يعتقد البعض أن من أكثر المغالطات التي وقع فيها المنتفضون في لبنان هي تسمية الحراك بالثورة. ذلك أن الثورة بجوهرها تسعى إلى الانقلاب على قواعد اللعبة للوصول إلى الحكم، سواء باستبدال الدستور أو الإطاحة بالمنظومة القابضة على مقدرات البلاد والعباد. وعادة ما تقوم الثورة ضد ديكتاتوريات أو إقطاعيات، كالثورة الفرنسية والبلشفية، حيث يقوم الشعب بعمّاله ونخبه ضد النظام. أما في لبنان، حيث لا مكان للبروليتاريا والبورجوازية المتوسطة الممهدين للثورة كما نظّر الماركسيون، (حيث أنه في غياب الصناعة والزراعة فليس لدى لبنان عمال ولا من يعملون)، وحيث أن ليس للحراك رؤية أيديولوجية تسعي لامتلاك السلطة وتغيير نظام الحكم كما حصل في روسيا، وحيث أن الحكم في لبنان جمهوري ديمقراطي برلماني، فغني عن القول إذن أن «الثورة» تكون عبر صناديق الاقتراع وفي نتائج الانتخابات حصراً، كما في جميع الديمقراطيات البرلمانية التي تتيح التعاقُب على السلطة. لذا فمصطلح الثورة هو أجنبي عن الواقع اللبناني.
يُحسب للحراك، كسره للتابو، أو المحظورات التي كانت خطوطاً حمر في الثقافة اللبنانية، كانتقاد زعماء الطوائف من دون مواربة. كما يُحسب له عدم المسّ بسلاح المقاومة، رغم كل المغريات، إلا ما شذّ من أصوات. كذلك أدى الحراك إلى إعادة إحياء أصوات ومؤسسات كدنا نظن أنها غير موجودة، كالمدعي العام المالي وغيره.
وفي حين نتفق مع الحراك على مطلب تشكيل «حكومة تكنوقراط»، إلا أن المطالبة بحكومة مستقلين (غير منتمين سياسياً)، لا يمكن وصفها إلا بمحاولة للانقلاب على نتائج الانتخابات النيابية التي شهد كل المراقبين الدوليين بنزاهتها.
وإذا صحت التكهنات بأن الرئيس المكلف قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من تقديم تشكيلته إلى رئيس الجمهورية، فيجب على الحراك إعطاء هذه الحكومة الفرصة والوقت الكافي لمحاولة إنقاذ الوضع الاقتصادي والمالي المهترئ. وأما التهجم على الحكومة قبل ولادتها، لمجرد أنها تضم أسماءً مقربة من بعض الأحزاب السياسية، فهو مجرد دعوة إلى الفراغ والفوضى.
ليس من التجني القول أن الحراك قد خسر زخمه الشعبي. وهذا بدا واضحاً في أعمال الشغب الأخيرة وقطع الطرقات، حيث كان عدد المشاركين لا يتجاوز المئات. والواضح إن المجتمع المدني واليسار هما اللذان ما يزالان يحاولان استنهاض الحراك. والسبب، كما أسلفنا، هو سوء الأداء الذي نفّر مختلف فئات الشعب ورسم علامات استفهام حول أهداف الحراك الحقيقية وما إذا كانت بعضه يأتمر بأجندات خارجية.
على المنتفضين إعادة تصويب بوصلتهم وتحديد أهدافهم وتنقية صفوفهم من الشوائب والابتعاد الكلي والفوري عن العنف وأعمال الشغب وقطع الطرقات…
وفي ظل غياب القيادة والبرنامج، من المتوقع أن تزداد الشروخ داخل مكونات الحراك الذي سينقسم بين مؤيد للحكومة العتيدة ومعارض لها. لاسيما وأن حكومة دياب ستضم ممثلين عنه. أما من لن يجدوا ضالتهم في الحكومة المنتظرة فسيلجأون إلى العنف، وهذا ما ينبغي لفئات الحراك الحذر منه عبر إعطاء حكومة دياب مهلة معقولة للقيام بواجباتها، مع إبقائها تحت المراقبة والتدقيق، تحت طائلة العودة إلى الشارع.
Leave a Reply