نبيل هيثم
«هناك ساعات أخرى في المنطقة».
عبارة قالها قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الاسرائيلي سامي ترجمان بعدما اعلن ان جيشه سيواصل تدمير «البنية التحتية» للمقاومة الفلسطينية في غزة «حتى الساعة الأخيرة» من عملية «الجرف الصامد».
ربما تلخص هذه العبارة التحوّل في العلاقة بين المنطق العسكري والمنطق السياسي في الحروب الاسرائيلية، حيث «العسكري» بات في خدمة «السياسي»، بعدما كان العكس هو القائم منذ نشأة اسرائيل في العام 1948.
ولعل السبب في ذلك هو سقوط أسطورة «الجيش الذي لا يقهر» بعد حرب تموز العام 2006 في لبنان، التي شكلت ذروة الانهيار للمنظومة العسكرية الاسرائيلية أمام المقاومة اللبنانية وعلى رأسها «حزب الله»، علما ان هذا المسار الانهياري قد تدرجت وبوتيرة سريعة منذ خروج جيش الاحتلال الاسرائيلي من بيروت على وقع ضربات المقاومة الوطنية والاسلامية اللبنانية في العام 1982، وها هو السقوط يتكرر اليوم في غزة.
وطالما أن «السياسي» هو ما يحرّك «العسكري»، بعد سلسلة الاخفاقات – لا بل الهزائم – التي مني بها الجيش الاسرائيلي، وفي ظل وجود قيادة سياسية يمينية متطرفة في إسرائيل، فإن السيناريوهات المتاحة في حرب غزة الحالية تتراوح بين احد امرين : الهزيمة العسكرية على ابواب القطاع المحاصر… وسياسة الأرض المحروقة، التي تبدّت بشكلها البشع في حي الشجاعية.
وأيا تكن نتيجة الحرب الحالية، فإن شبح سقوط ايهود اولمرت (بعد حرب لبنان الثانية)، وقبله شمعون بيريز (بعد عملية «عناقيد الغضب» في لبنان العام 1996)، يلاحق اليوم رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو.
ولا بد ان نتنياهو يشعر بالهلع، كلما ابلغ من القيادة العسكرية بمقتل أحد جنوده (ناهز عددهم الخمسين منذ بدء العدوان وحتى كتابة هذه السطور). والسبب الرئيسي في هذا الهلع هو ان الحكومة الاسرائيلية يتنازعها جناحان يمينيان، يتربص كل منهما بالآخر:
– الاول، يتزعمه نتنياهو، الطامح الى «تسوية ما» تمنعه من الانزلاق أكثر في مستنقع غزة.
– الثاني، يتزعمه افيغدور ليبرمان، الوزير اليميني الذي تدفعه عنصريته الفظة إلى التموضع في اقصى اليمين، محرضاً على العملية البرية – او بالأصح المغامرة البرية – ارضاءً لنزعته المتطرفة من جهة، ولتسجيل نقاط في مرمى نتنياهو في محاولة لتحقيق طموحاته السياسية، مستفيداً من ذهاب الرأي العام في اسرائيل بعيداً في عنصريته ضد الفلسطينيين، والتي تبدّت في مواقف من قبيل «احرقوا اطفالهم» و«اطفال قتلى في غزة.. يا للجمال»!
ولعل ثمت صراعاً يدور في اروقة الحكم في القدس المحتلة في موازاة الصراع المسلح على جبهة غزة، وهو صراع بين خيار براغماتي يمثله نتنياهو، الذي يدرك جيداً التداعيات السياسية والاقتصادية على حكومته، وآخر شعبوي، يمثله ليبرمان وباقي وزراء اليمين المتشدد، الذي يسعى الى ترميم اسطورة «الجيش الذي لا يقهر».
ولكن الامر يبدو مختلفاً على الجبهة الثانية، وخصوصاً لدى حركة حماس. فلطالما كان «السياسي» هو المحرّك لـ«العسكري» في كافة الحروب التي خاضتها المقاومة الفلسطينية ضد الجيش الاسرائيلي، وهو ما عرّضها لانتقادات داخلية وخارجية بعد قبولها بمبادرة الرئيس المصري المعزول محمد مرسي – الذي يتشارك مع قادة حماس الانتماء الى تنظيم «الإخوان المسلمين»، دون ضمانات جدية لفك الحصار وعدم تجدد العدوان.
اما اليوم فإن هذه المقاومة – بجناحها العسكري – باتت هي المعيار الذي تقف عنده المكاتب السياسية لفصائلها وتنظيماتها، في مقاربة التطورات الحالية في قطاع غزة. والواقع ان المقاومة الفلسطينية نجحت – بأجنحتها المتعددة – في فرض معادلة جديدة في الصراع، جعلت البعض يستذكر تهديد نتنياهو بضرب ايران على خلفية برنامجها النووي، ويتساءل: كيف يمكن لإسرائيل ان توجه ضربة لقوة ذات مكانة اقليمية لا يستهان بها، فيما هي عاجزة عن احتواء الموقف في رقعة جغرافية لا تتعدى مساحتها 360 كيلومتراً مربعاً؟!
وتبدو المقاومة الفلسطينية الآن في افضل حالاتها، مقارنة بجولات الصراع السابقة، ليس بسبب امتلاكها قدرات عسكرية مفاجئة فحسب (صواريخ، طائرات من دون طيار، انفاق، فرق كوماندوس بحرية وبرية…)، بل لتسلحها بالتفاف على المستويين الشعبي في غزة – ناهيك عن المواقف الداعمة من الضفة الغربية – ونجاح جناحها العسكري في فرض قراره على قيادتها السياسية.
ومع ذلك، لا يمكن اغفال ان تلك المقاومة – الممثلة خصوصاً في حركة حماس – يتنازعها تيار براغماتي (المكتب السياسي) وآخر جذري (ممثلاً بالفصائل العسكرية). وبالرغم من ان هذا التنازع لم يصل الى مرحلة الصراع، بالنظر إلى طبيعة المعركة ضد العدو، والتي تفرض على الكل عدم التشويش على العمل المقاوم، والالتفاف الشعبي الذي حصّن الفصائل المقاومة من الاعيب السياسة.
ولذلك فإنّ كثيرين ينظرون بعين الرهبة إلى المعارك الديبلوماسية التي تجري بعيداً عن جبهات القتال وحمام الدم.
ويدرك الجميع ان لا حرب من دون نهاية، وان لا حرب من دون اهداف، وهو ما تراهن عليه الدوائر السياسية التي تخوض معركتها في اروقة الديبلوماسية.
وربما يدرك الوسطاء الاقليميون والدوليون ان انهاء الحرب يشكل قاسماً مشتركاً يمكن البناء عليه لتحقيق تهدئة مستدامة. لكن نهاية اي حرب تبقى مرتبطة بتحقيق اهدافها، وهو المعيار الرئيس للحديث عن اي انتصار أو بالاحرى عن اية تسوية.
ولكن ما يثير القلق لدى كثيرين هو ان يفرض «السياسي» نفسه على «العسكري» هذه المرّة، ولعل القلقين يستذكرون المقولة الشهيرة «ما دخلت السياسية في شيء إلا افسدته»، وما يفاقم قلقهم هو ان اية تسوية محتملة لا بد ان تقوم على الوصول إلى حلول وسط بين البراغماتيين من هذه الجهة او تلك.. او بتعبير اكثر عملياً: نتنياهو وقيادة حماس في الخارج.
واما سبب القلق فيعود بالدرجة الاولى الى ادراك كثيرين بأن اجندتي نتنياهو والقيادة السياسية لحماس تتقاطعان في نقاط عدّة، تلتقي كلها عند قطر، التي تسعى لفك عزلتها الاقليمية، في خضم صراع حاد مع دول الخليج ومصر، بدأه سقوط نظام «الاخوان المسلمين». ومن الواضح حتى الآن ان اية تسوية محتملة لا بد ان تشمل دوراً ما للإمارة القطرية المذكورة، سواء لجهة اعادة اعمار ما هدمه العدوان في غزة، أو الاشراف على المعابر (إلى جانب تركيا)، او حتى الاستثمار في اسرائيل لتعويضها عن النتائج الاقتصادية الكارثية لهذه الحرب. من هنا يفسر كثيرون الرفض الذي قوبلت به المبادرة المصرية، التي لا تختلف كثيراً عن نسخة العام 2012 سوى في بعض التفاصيل ، والضمانات، التي برغم اهميتها، قد لا تشكل عقبة امام قيادة حماس للقبول بالحل الديبلوماسي المطروح، ما لم تنتصر في النهاية ارادة المقاومة العسكرية، التي رفعت بصواريخها السقف، بشكل مشروع، ليشمل مطالب مشروعة، في طليعتها انهاء الحصار. ومن دون الحكم على النوايا، يمكن القول إن الصراع الذي تخوضه المقاومة الفلسطينية في غزة شيء، والصراع الذي تخوضه القيادة السياسية لحماس على خط الدوحة القاهرة شيء آخر.
يبقى اذاً ان ننتظر لنرى كيف ستنتهي الحرب، وما إذا كانت التسوية ستتم بشروط فلسطينية بحتة، ام بشروط تندرج في سياق الصراعات الإقليمية القائمة… كل هذا رهن بما ستتمخض عنه التطورات الميدانية والسياسية خلال الايام المقبلةعليهم.
ومن الخسائر المتوقعة أيضا هو ما سوف يقوم به الإسرائيليون من طلب التعويضات عن الخسائر التي تكبدوها بشكل شخصي من الحكومة، حيث أنه وبعد 15 يوماً تقريبا منذ بدء الحرب تم التقدم بما يزيد عن 662 طلب تعويض لأضرار الصواريخ، منها 416 طلب تعويض للمنازل وأكثر من 200 طلب تعويض للخسائر التي أصابت الحقول والسيارات. ومن أكثر القطاعات تضررا في هذه الخسائر هو قطاع السياحة الذي لن يتعافى قبل خمسة او ستة شهور. وتشير التقديرات الحالية الى ان خسائر هذا القطاع تجاوزت 50 مليون دولار.
5 اشهر، كما تتوقع شركة الطيران الاسرائيلي «العال» في الربع الثاني من هذا العام ان تكون هناك خسائر بين 40 إلى 50 مليون دولار – طبقا للتقرير.
واضطرت الحكومة الاسرائيلية لتأجيل مناقشة الميزانية العامة في ظل معطيات جديدة تتعلق بتعويضات المواطنين تُقدر تقريبا بأكثر من 10 ملايين شيكل يومياً. كذلك، اضطرت مصانع للإغلاق، وتوقفت ورش زراعية وإنشائية. وهناك أيضاً الخسائر في البنى التحتية لشركات الكهرباء والمياه والغاز وأيضاً للطرقات.
خسائر اقتصادية هائلة تلحق إسرائيل
إلى جانب الخسائر البشرية لحربها على قطاع غزة، تكبدت اسرائيل منذ بدء عملية «الجرف الصامد» وحتى الآن, خسائر اقتصادية هائلة، تقدر بمليارات الدولارات،
الرقم المعلن عشية الاسبوع الثاني للحرب هو 585 مليون دولار، بحسب ما تقول وزارة الدفاع الإسرائيلية، لكن هؤلاء نسوا، أو اخفوا واقع ان هذا الرقم ليس سوى التكلفة العسكرية المباشرة.
وتشير التقديرات الاسرائيلية إلى ان تكاليف وزارة الدفاع وحدها تجاوزت ملياري شيكل إسرائيلي (585 مليون دولار).
وفيما استدعت اسرائيل 40 ألفاً من قوات الاحتياط، فإن الترجمة الاقتصادية لهذا الاجراء تعني كلفة تقدر بسبعة ملايين دولار في اليوم، ذلك أن خدمة كل جندي في أوقات الخدمة الاحتياطية هي 600 شيكل يومياً (تعادل 170 دولاراً).
يذكر ان تكلفة القتال العسكري في حرب لبنان الثانية قدرت بـ 350 مليون شيكل (100 مليون دولار) يومياً، فيما قدرت بـ170 مليون شيكل (50 مليون دولار) في عملية «الرصاص المسكوب» في غزة العام 2012. ولأن المعركة تبدو اليوم مختلفة، في ظل دخول منظومات عسكرية جديدة في الخدمة، يمكن القول ان التكلفة الحالية تتجاوز الرقمين السابقين.
وتبلغ كلفة تحليق طائرة حربية 15 ألف دولار في كل ساعة، وتكلفة تحليق طائرة من دون طيار تبلغ 1500 دولار في الساعة، في حين ان تكلفة تحليق الطوافات تقدر بحوالي 5 آلاف دولار في الساعة.
اما تكلفة بطارية واحدة من منظومة «القبة الحديدية» فتبلغ ما بين60الى80 مليون دولار، في حين تبلغ تكلفة كل صاروخ اعتراضي ما بين 40 الى 50 ألف دولار.
ولكن الامر لا يقتصر عند هذا الحد، فالخسائر طالت مختلف القطاعات الاقتصادية في اسرائيل، وبلغت المليارات (8.5 مليار شيكل أي ما يعادل 2.4 مليار دولار على اقل تقدير).
ويمكن في هذا الإطار الحديث عن إلغاء مئات الرحلات الجوية من وإلى تل أبيب، وذلك بعد تحول مطار بن غورويون إلى ما يشبه «مدينة أشباح»، بعدما طالته صواريخ المقاومة. وكذلك يمكن الحديث عن تراجع القوة الشرائية للمستهلك الاسرائيلي خلال أيام الحرب خوفا من سقوط أية صواريخ.
Leave a Reply