أضافت السعودية، بعد مهرجان الاستقلال المزدوج، الذي تكلّل بعودة الرئيس سعد الحريري إلى حاضنته الوطنية بعد غياب قسري، أضافت إلى سجلها الحافل بالنكبات، هزيمة سياسية جديدة أعقبت هزائمها المتتالية في سوريا واليمن والعراق وقطر وفلسطين، وبعد فشلها الذريع بمواجهة «الثعلب الإيراني» الذي اقتحم مجالها الحيوي مستفيداً من دعسات «أميرها» الناقصة، والتي كان آخرها الحجْر على رئيس حكومة لبنان وإجباره على الاستقالة من «مكان مجهول» على أراضيها، وتهديد السلم الأهلي وزعزعة الأمن الاجتماعي والاقتصادي، ناهيك عن حفلات الجنون والمجون الإعلامي التي قادها «وزير الحرب على لبنان» ثامر السبهان، والتي تمّ فيها التهجم على رمز البلاد الرئيس ميشال عون ووصمه بالخيانة من قبل أزلام السبهان والمحسوبين عليه، إضافة إلى حلقات التهديد والوعيد التي وصلت إلى حد التلويح بتمويل وتغطية حرب إسرائيلية على لبنان … ولكن مهلاً، هناك إنجاز سياسي كبير وعظيم حققته «قبلة المسلمين»، ألا.. وهو الشروع بفتح علاقات مع الكيان الإسرائيلي المحتل للأرض العربية والغاصب لفلسطين والجولان ومزارع شبعا في لبنان..
وإذا كان من الصعوبة بمكان، بل ضرب من الوهم والأحلام، أن يخوض الحريري معركة سياسية مفتوحة بوجه السعودية لاعتبارات كثيرة، منها ما يتعلق بأسباب شخصية تأخذ أبعاداً عائلية، ومنها ما يتصل مباشرة بطبيعة النفوذ السعودي «الريعي» لدى دول العالم التي تحركها مصالحها الاقتصادية ، ومنها ما يتصل بالسلوك الأرعن والمتهور الذي لا يجد حرجاً في ترحيل عشرات آلاف اللبنانيين المقيمين في بلاد الحرمين، ومنها ما يتعلق بإعادة التموضع السياسي الذي سيفقد الحريري معه مظلته الدولية… إلا أنه لا يمكننا إلا التنويه بأداء الرئيس الحريري وبكلامه الوطني الجامع، الواعي والمسؤول، الذي وضع لبنان أولاً ورسم خريطة واضحة المعالم لقصة لن يستطيع البوح بأسرارها، ولكن غصتها كانت حاضرة في خطابه أمام جمهوره الأزرق الصغير الذي لا يقارن بجمهوره الكبير من مختلف الألوان والأطياف، والمتسمر وراء الشاشات في لبنان والعالم.
الخطاب الذي لم يأتِ فيه على ذكر السعودية ولم يشكرها كما درجت العادة ولم ينفِ إقامته الجبرية فيها، والذي أطلق فيه السهام تجاه الخونة وقليلي الوفاء، أتى مباشرة بعد مصافحة حارة بينه وبين السفير الإيراني في القصر الجمهوري.
من حيث لا تدري –وبعكس ما تشتهي– أسدت السعودية للحريري أكبر خدمة يمكن لأي زعيم سياسي الحصول عليها، وألا وهي التعاطف والتأييد الشعبي العارم من مختلف فئات الشعب على حد سواء، باستثناء البعض وعلى رأسهم القوات اللبنانية وجماعة أشرف ريفي وبعض الجيوب المتبقية من ١٤ آذار وقرنة شهوان وآخرين.
الحريري الذي تواطأ بإيجابية مع مشهدية الأسير المحتفى بتحريره، بكل ما تختزنه هذه المشهدية من احتفال و فرح وشوق. إذ بدا واضحاً أنه كان يتحرك بأمن وأمان بين جمهوره، وكأنه ينفي عن عمد روايته عن تعرضه لمحاولة اغتيال، يستدعي الأطفال ليقبلهم ويمارس شغفه بـالـ«سيلفي». يشكر الجماهير على «تهنئته بالسلامة» والكل ضمناً بات يعرف السلامة من ماذا. والعمة بهية تطل من الشرفة، تبتسم بغصة الملهوف وتنظر بعين الرضا والطمأنينة على «مُلكٍ» كاد أن يضيع في بلاط ابن سلمان!
عملياً فإن الحريري علّق استقالته، ولو استعان بأحد أرانب الرئيس بري، تكتيك «التريث»، كمقدمة أولية لتدوير الزوايا وإفساح الطريق أمام الدبلوماسية الفرنسية – المصرية المشتركة التي ستعمل على خط لبنان –السعودية– إيران من أجل لجم الاندفاعة السعودية وعقلنة مطالبها بما يتماشى مع العلاقات المنطقية بين الدول حتى يفهم أولو الأمر في المملكة بأن لبنان ليس شأناً سعودياً داخلياً.
لقد استطاع الحريري وبوقت قياسي أن يتحول إلى زعيم وطني يمثل كل لبنان، بعدما أصبحت قضيته رمزاً لكرامة وعنفوان اللبنانيين، ولكن هل سيستطيع الحفاظ على هذا الإجماع الوطني الذي لن يتكرر، واستثماره بما يخدم مصالح البلاد والعباد؟ هذا ما ينتظره كل اللبنانيين، وهذا ما سيكشف عنه قادم الأيام…
Leave a Reply