كمال ذبيان – «صدى الوطن»
في 17 تشرين الأول 2019، اندلع «حراك شعبي» في لبنان دفع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري إلى الاستقالة، تلبية للمطالب الشعبية، لكنه بعد مرور سنة واحدة عاد ليقدّم نفسه مرشحاً طبيعياً لرئاسة الوزراء، رغم إعلانه قبل أقل من أسبوعين عن عدم نيته تولي المنصب.
هكذا، أطلق الحريري قنبلة سياسية منتظرة، عبر مقابلة تلفزيونية، قائلاً إنه سيجري لقاءات ومشاورات لتشكيل حكومة جديدة تتمحور حول تنفيذ المبادرة الفرنسية التي أعلنها من بيروت الرئيس إيمانويل ماكرون، ونالت تأييد القوى السياسية والحزبية الأساسية.
بذلك، يمتطي الحريري، صهوة المبادرة الفرنسية التي تعثرت مع استقالة الرئيس المكلّف السفير مصطفى أديب لكنها لم تسقط. وإذا كان أديب قد فشل في تشكيل حكومة مستقلين من غير الحزبيين وأصحاب الاختصاص، وعاد أدراجه إلى برلين سفيراً للبنان، فإن الحريري –في حال تكليفه– سيتخذ مساراً مختلفاً لتشكيل الحكومة الجديدة التي تقع على عاتقها مهمة إنقاذ البلاد من أزمتها الاقتصادية والسياسية.
الاستقالة مرّتين
لم تكن استقالة الرئيس الحريري العام الماضي، هي الأولى، فقد سبق وقدّم استقالته قبل نحو عامين، في السعودية (4 تشرين الثاني 2018) وتحت ضغط ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ولولا تدخل الرئيس الفرنسي، وتضامن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون معه ورفض البت بالاستقالة قبل عودته إلى لبنان، لكان رئيس «تيار المستقبل» مازال في المملكة التي لم تعد مطمئنّة لأدائه السياسي بسبب تفاهمه مع «حزب الله» ومشاركته في التسوية الرئاسية التي أتت بالعماد عون رئيساً للجمهورية بعد عامين ونصف العام على شغور موقع الرئاسة الأولى.
وإذا كانت واقعية الحريري في التعامل مع التيار العوني و«حزب الله» الذي تمكّن مع حلفائه من نيل الأكثرية النيابية، لم ترق للسعودية التي وضعت ما يشبه «الفيتو» على عودة زعيم «تيار المستقبل» إلى رئاسة الحكومة وفق التوازنات الحالية، فإن واقعية الحريري نفسها، هي بالضبط ما تحتاجه فرنسا لتثبيت دورها المتجدد في لبنان.
العودة لرئاسة الحكومة
بعد استقالته –مرغماً– مرتين، قرّر الحريري العودة إلى السلطة، تحت عباءة المبادرة الفرنسية، وهي المعبر الوحيد له إليها، بعد أن فقد رعاية السعودية له، وسط مؤشرات على دعم الرياض لشقيقه بهاء سياسياً وإعلامياً. كما أن الإدارة الأميركية لم تعد ترتاح له، بعد تشاركه الحكم مع «حزب الله» في حكومته الأخيرة.
فواشنطن –كما الرياض– لا ترغب بوجود الحزب في السلطة وهو مطلب لا يمكن تحقيقه بالنظر إلى التوزان السياسي القائم حالياً، فلم يتبقَ أمام الحريري، سوى صديقه ماكرون، ليكون خشبة خلاصه من العزلة السياسية التي أحاقت به، سواء دولياً أو داخلياً، وسط تخلّي حلفاء عنه، كسمير جعجع ووليد جنبلاط، اللذين رفضا تسميته لرئاسة الحكومة، وطرحا اسم السفير نواف سلام.
كما يفتقد الحريري إلى دعم أكبر تكتل مسيحي في البرلمان، إثر سقوط «التسوية الرئاسية» والتفاهم مع «التيار الوطني الحر» ورئيسه الوزير جبران باسيل، الذي فرض شروطه على الحريري وأحرجه أمام حلفائه، مثلما داخل بيئته الشعبية.
الولاء الفرنسي
كما والده الرئيس رفيق الحريري، الذي أوجد أصدقاء له في فرنسا، وفي مقدمهم الرئيس الأسبق جاك شيراك، فإن سعد الحريري يعمل على النهج ذاته، بمصادقة ماكرون وإقامة علاقات عائلية معه إلى جانب التعاون السياسي.
لكن الحريري هذه المرة، قدّم صداقة فرنسا على صداقات أخرى، عربية كانت أو أجنبية، حيث أصبحت عودته إلى السراي مرهونة بالولاء لباريس، وفق قاعدة «الصديق وقت الضيق».
فماكرون سبق وأنقذ الحريري من الاعتقال المهين في السعودية، وأعاده إلى الحياة السياسية، كما سبق للرئيس الفرنسي أن نظّم مؤتمر «سيدر»، لمساعدة لبنان اقتصادياً ومالياً عبر منح وقروض ميسرة، وهو ما فعله شيراك مع أبيه، بعقد ثلاثة مؤتمرات في باريس، لإصلاح الوضع المالي والاقتصادي.
أما الرئيس الفرنسي الحالي، فيرى في تولي الحريري لرئاسة الحكومة، ضرورة لتنفيذ الإصلاحات التي وردت في الورقة الإنقاذية التي قدّمها ماكرون إلى المسؤولين في لبنان، داعياً إياهم إلى التفاهم السياسي لتشكيل حكومة، دون أن يحدّد شكلها وحجمها، متمنياً فقط ألا تتكون من وزراء سياسيين، بل أن تحظى بدعم سياسي.
ولم يوفق السفير أديب، في تقديم صيغة تحاكي المطلب الفرنسي، وذلك بعد تكبيله بشروط «نادي رؤساء الحكومات السابقين»، وهو ما قد يكون مقصوداً من هذا النادي لتعطيل جهود أديب ودفعه إلى الاستقالة، فيعود أحدهم إلى رئاسة الحكومة. وبالفعل، رشح نجيب ميقاتي نفسه، وقدّم صيغة حكومة تكنو–سياسية، فرفضها الحريري مقدماً نفسه كمرشح أوحد للمبادرة الفرنسية، ومقترحاً حكومة لا تضم حزبيين.
لكن ما أن أعلن الحريري عن ترشّحه لرئاسة الحكومة مستبقاً الاستشارات النيابية الملزمة، أعلن رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، معارضته «للتكليف الذاتي» الذي لجأ إليه الحريري، معتبراً أنه نسف للدستور والطائف، كما أكّدت «القوات اللبنانية» بأنها لن تكون شريكة في السلطة، وإن كانت تقف مع المبادرة الفرنسية التي لم يرفضها أي من الأطراف بعد.
الثنائي الشيعي
ومع رفض أبرز حلفاء الحريري لترشيحه، صدر الموقف الإيجابي تجاه زعيم «المستقبل» عن «الثنائي الشيعي» (حركة «أمل» و«حزب الله») بالاستمرار بتأييد المبادرة الفرنسية وعدم الاعتراض على ترشيح الحريري، الذي حظي بدعم الثنائي في أحلك الظروف.
إلا أن الخلاف مع الحريري قد يظهر حول شكل الحكومة، بعد أن سلّم الأخير بأن تكون وزارة المال مع الشيعة لمرة واحدة. فالحريري سيحاول تجاوز الخلافات عبر السماح للطرفين بتسمية وزراء غير حزبيين، لأن من مصلحة الحريري ألا تضم الحكومة أعضاء في «حزب الله»، فيما يؤكّد الأمين العام للحزب، السيد حسن نصرالله، بأن الحكومات بعد الطائف تشكّل سياسياً، لأن السلطة السياسية بحسب الدستور باتت بيد مجلس الوزراء مجتمعاً.
التيار الوطني الحر
من جهة أخرى، ثمّة إشكالية برزت بين «التيار الوطني الحر» والحريري، لجهة شكل الحكومة، فموقف التيار واضح لجهة الإسراع في تشكيل حكومة، سواء كانت من الطبقة السياسية، أو من خارجها، لكنه لا يقبل برئيس حكومة سياسي –مثل الحريري– ووزراء مستقلين، وهذا الموقف عبّر عنه باسيل سابقاً بقوله: «إما حكومة أنا وسعد فيها، أو نحن الاثنين خارجها»، ومازالت هذه العقدة قائمة.
ووسط انقسام الكتل حول تكليف الحريري، أُرجِئت الاستشارات النيابية المُلزمة التي كانت مقررة الخميس الماضي أسبوعاً كاملاً، حتى 22 تشرين الأول الجاري.وجاء في بيان مقتضب صدر عن القصر الجمهوري أن تأجيل الاستشارات حصل «بناء على طلب بعض الكتل النيابية ولبروز صعوبات تستوجب العمل على حلها».
ومع تبدل موقف جنبلاط بدت حظوظ الحريري محسومة بحصوله على تأييد معظم الكتل النيابية الرئيسية، باستثناء حزب «القوات» و«التيار الوطني الحر».
شكل الحكومة
ورغم الموافقة المبدئية على تسمية الحريري من معظم الكتل إلا أن ذلك لا ينفي حاجة القوى السياسية إلى إجراء تفاهمات حول شكل الحكومة الذي لايزال غامضاً، فالحريري قدّم نفسه مرشحاً لرئاسة الحكومة، تحت سقف المبادرة الفرنسية، لكنه لم يصل إلى تصور نهائي بعد. فهل تكون الحكومة تقنية أو سياسية مطعّمة بتكنوقراط، أو سياسية صرف؟
ثمة تجربتان حديثتان، هما تجربة حسان دياب، الذي ترأس حكومة مستقلين مسيّسين من لون واحد، بعد عجزه عن تشكيل حكومة غير سياسية، وتجربة مصطفى أديب التي باءت بالفشل السريع بسبب الإصرار على تجاهل الكتل السياسية التي من شأنها أن تمنح الحكومة الثقة في البرلمان، فلم يصل حتى إلى طرح أسماء وزرائه.
أما الحريري الذي يحاول تولي رئاسة الحكومة لمرة رابعة، فيواجه عقبات كأداء، فإذا عبر باسمه فعلاً وتم تكليفه من قبل الأكثرية النيابية، ودخل فعلاً مرحلة التأليف، فإنه سيواجه صعوبات وتعقيدات ستحول على الأرجح دون إرضاء جميع القوى السياسية الرئيسية في البلاد.
في جميع الأحوال، بدأ الحريري مسار العودة إلى السراي مقدماً نفسه كمرشح المبادرة الفرنسية، فإذا قررت القوى السياسية نبذ المبادرة فهو سيسحب ترشيحه تلقائياً، لكن الاتصالات تشير إلى أنه قد يحصل بالفعل على أكثرية نيابية، تؤمنها كتل هي من صلب «8 آذار» إضافة إلى كتلة «المستقبل».
Leave a Reply